القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الحادي والثمنون 81 بقلم ياسمين عادل

 رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الحادي والثمنون 81 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الحادي والثمنون 81 بقلم ياسمين عادل

رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الحادي والثمنون 81 بقلم ياسمين عادل

"الحُب فِطرة، نبتت بذرتهِ داخلي لأجـلك."
________________________________________
توقف عن القيادة فجأة، بعدما أحس بمشاعرٍ غير طبيعية تهاجمه. أحس بأنفاسهِ تضطرب، ورؤيتهِ تتشوش، فأسرع يضع القرص العلاجي الذي يتناوله عند الحاجه في فمه ، وأرخى رأسه للخلف قليلًا لكي يستعيد وعيه. وضع "يونس" يدهِ موضع جرحهِ الذي لم يلتئم تمامًا، وصرّ على أسنانهِ يكتم الألم بداخله، حتى هاتفه الذي يرن بجوارهِ عجز عن مدّ ذراعهِ ليتناوله. الوجع سيطر على كافة عضلاتهِ التي تيبست بتأثر إنذاك، بشكل لم يتحمله كثيرًا، وغمغم بصوتٍ مكتوم :
- يارب، إنت وحدك اللي عارف إني مينفعش أقع.. قويني ورجعني تاني عشانها يارب.
التفتت رأسهِ تلقائيًا وهو يميل بها نحو المقود، ليلمح تلك المكتبة العتيقة، تجلّى القِدم على معالمها، وكأنها قطعة من تاريخٍ قديم. أحس وكأنما تسلل عبق الأوراق لأنفهِ، فـ استثاره نحو شراء المزيد من الكتب لإضافتها إلى مكتبته الخاصة. تنفس بصوتٍ مسموع، وشرع يترجل من سيارتهِ كي يدلف إليها. خطى خطوة واحدة، ليرى ذلك الكهل الذي شارف على السبعون من العمر، يجلس على الطاولة مرتديًا نظارتهِ القديمة، ويتصفح الجريدة بعناية وإهتمام. حمحم قبل أن يقترب، وصاح بـ :
- صباح الخير.
رفع الرجل أنظاره نحو الزائر، وابتسم ببشاشة في وجهه :
- صباح النور، أتفضل.
ونهض لإستقباله،حينما كانت عينا "يونس" تتجول بين الأرفف المكتظة بالكتب والروايات العربية والأجنبية :
- بتدور على حاجه معينة؟
فنظر "يونس" نحوهِ مجيبًا :
- لأ، بس بقالي كتير مقرتش وعايز شوية حاجات مختلفة، هختار بنفسي متتعبش نفسك.
وبدأ ينتقي بدقة شديدة، بعض العناوين التي جذبت إنتباهه، وبعض الروايات التي قرأها مسبقًا ولكنه حبذ إنتقائها مجددًا، لكي يُهديها إلى حبيبتهِ التي ستحب القراءة مثلهِ. ملأ ذراعهِ بالكثير من الكتب، ثم تركهم جانبًا وعاود النظر في الجهة المقابلة. رفع ذراعهِ بحرص لكي يتناول ذلك الكتاب الضخم، فـ انتبه العجوز لتلوث قميصهِ ببقعة من الدماء، توارت أسفل معطفهِ الداكن. فـ قطب جبينه مصابًا بالفزع، ولفت إنتباهه :
- إنت متعور يابني؟!.
انتقلت نظرات "يونس" نحو موضع إصابتهِ تلقائيًا، ليتفاجأ بالدماء التي لوثت قميصهِ، وضع يدهِ بعفوية عليه وضغط قليلًا، ارتبك خشية من وقوع الأسوأ وتدهور حالتهِ فجأة، فـ اكتفى بما وقع عليه اختيارهِ من الكتب، وأخرج حافظة نقوده وهو يقول :
- حاجه بسيطة ياحج، متشغلش بالك.
أخرج بضع ورقات نقدية وناوله إياها، وأشار للكتب :
- أنا أخدت دول.
نظر الرجل إلى المبلغ الوفير الذي أعطاه إياه، واتسعت عيناه بعض الشئ وهو يردف بذهول :
- ده كتير أوي، أستنى طيب أحسبلك الكتب بكام و...
فقاطعهُ "يونس" وهو يحمل كتبهِ بعجل :
- معلش ياحج معنديش وقت، أديك شايف بنفسك.
وقبل أن يخرج كان صوت الرجل يلحق به :
- طب أصبر أديك شنطة؟؟.
- مش لازم.
وضع الكتب في المقعد المجاور، وأوفض نحو مقعدهِ كي يستطيع اللحاق بنفسه، قبيل أن يتفاقم نزيفهِ المفاجئ. برد جسدهِ وأحس بلفحات الهواء تضرب بدنهِ ببرودتها، اضطربت أنفاسهِ وقد جثم الضيق على صدره، وأثناء قيادتهِ بدأ يتصل بالطبيب حتى يتجهز لإستقباله بالمشفى.
************************************
أغلق الطبيب على جرحهِ جيدًا، وتعابير وجهه المتجهمة مقروءة بوضوح. تجاهل "يونس" ذلك وعيناه مسلطة على خاتم خطبتهِ، حتى في أوج ألمه تأتي بمخيلتهِ، گنسمة لطفت أجواء شديدة الحرارة. ابتعد الطبيب قليلًا، نزع قفازاتهِ الطبية، وأردف قائلًا :
- ده اللي حذرتك منه، لازم طبعًا جرحك يعمل كده لأنه ملحقش يلتئم.
استقام "يونس" من نومتهِ، وأغلق أزار قميصه وهو يردد :
- أنا كويس، دي حاجه طبيعية يعني.
- مش طبيعية أبدًا يايونس، إنت مـهمل.
نهض "يونس" كي يضع قميصهِ بداخل البنطال، بدون أن ينبث بكلمة، ثم تناول معطفه ليرتديه :
- حاضر، هخلي بالي المرة الجاية.
استوقفه الطبيب قبل أن يتحرك، وشدد على تحذيرهِ :
- أنا المفروض أحجزك دلوقتي.
ابتسم "يونس" وهو ينهي هذا الجدل بإصرارهِ الشديد :
- إنت عارف إني مش هتحجز تاني، متشغلش بالك إنت يادكتور، أوعدك هخلي بالي المرة الجاية.. بس لازم أمشي دلوقتي عشان ملك مستنياني.
ضم المعطف إلى صدرهِ جيدًا، ثم خرج بخطواتٍ حذِرة، منتقلًا إلى غرفتها، متشوقًا لرؤيتها أكثر من أي وقتٍ مضى. فتح الباب بعد طرقه، وأطل برأسه ليرى الممرضة تعاونها لكي تنهض عن الفراش، ثم أجلستها على المقعد المتحرك لكي يكون تغييرًا لها. لمحته، فرفعت بصرها فورًا نحوه، وأشرقت ملامحها وهي تنطق بإسمهِ :
- يـونس، تعالى أنا مستنياك من الصبح.
ابتعدت الممرضة عنها بعدما أدت مهمتها، وتركتهم منفردين، أغلق "يونس" الباب ودلف حاملًا إليها بعض الكتب، وضعها على الطاولة مفسرًا :
- جيبتلك حاجه هتسليكي.
دنى منها وأقبل يُقبّل صدغها، ثم اعتدل ليجلس أمامها :
-مرتاحة؟
- جدًا.
ثم نظرت للكتب التي اختارها، وتسائلت برغبة :
- إيه رأيك تقرالي حاجه، عشان تفتح نفسي وأكمل.
فأرتفع شغفهِ لدى رغبتها، ونهض ليتناول أحدهم :
- طبـعًا.
انتبه لإرتدائها إحدى المنامات الجديدة، والتي برز جمالها بعدما أرتدتها، فـ لاحت إبتسامة تُزين محياه، قائلًا بإعجاب شديد :
- الترنج حلو جدًا عليكي.
- عشان إنت اللي اختارته.
وخاطرت بالمحاولة، وهي تستند على المقعد لكي تنهض، فـ هبّ "يونس" واقفًا، وساند ساعدها على الفور ليجتذبها نحو الفراش من جديد، قائلًا بتخوف :
- إنتي بتقومي فجأة كده ليه ياملك؟.
جلست واجتذبته ليجلس جوارها، وهي تزيل عن مخاوفه :
- متخافش، أنا كويسة وبقدر أقوم لوحدي.
ووضعت رأسها على كتفهِ وهي تتابع بتشوقٍ :
- يلا أحكيلي، عايزة أسـمعـك.
واستغرقت بالتركيز في نبرة صوته المختلفة، وهو يقص عليها بأسلوبهِ المُحفز تفاصيل القصة وحوارها أيضًا، انغمست معه، في أجواء مختلفة لا تشبه واقعهم، ونسيت للحظة من تكون، نـسيت إنـها "مــلك".
*****************************************
رغم تحسن حالتها، إلا إنها ما زالت تعاني من بعض الآلام الطفيفة في ساقها المصابة. حافظت على سلامتها ليومين متتاليين كي تستطع الذهاب إلى حفل الزفاف، گنوع من الترويح عن نفسها المحبطة. نظرت لوجهها بعدما أضافت إليه لمساتها التجميلية المحترفة، مُراعية أن تكون ألوانها هادئة متناسقة. أعادت تجديد طلاء الشفاه البني الرقيق لملء الخطوط البيضاء، ثم نهضت كي ترتدي فستانها الذي ابتاعتهُ مؤخرًا. نظرت إليه بنظراتٍ متحمسة لرؤية جسدها مكسوًا به، وسحبته برفق وهي تردد لنفسها :
- إنت أتدفع فيك كتير أوي والله، بس مش مهم.
تمهلت أثناء ارتدائهِ مستمتعة بملمسهِ الناعم، ثم وقفت أمام المرآة لترى قياسه المنضبط، طوقت عنقها بعقد ضخم يلائم ثوبها الخالي من أي تطريزات إضافيه، فقط مظهرهِ الذهبي اللامع السادة، ثم انشغلت بجمع خصلاتها الجانبية للخلف بمشبك الشعر اللؤلؤي.
أفرطت في نثر عِطرها الجديد، وهي تنظر لهيئتها المكتملة في المرآة، شاعرة برضا شديد عن نفسها. خطت أولى خطواتها خارج غرفتها، مجاهدة للتأقلم على حذائها العالي دون أن تتعرج به، وهبطت الدرج ببطءٍ متروّي، حتى وصل صوتهِ المميز لآذانها، فلم تهتم بذلك ومشت بإستقامة لتتخطى الردهه، فتفاجئت به في منتصف البهو، مرتديًا حُلتهِ الأنيقة كاملة، گمن تجهزّ لحضور مناسبة غاية في الأهمية. إلتفت إليها ليرتكز بأبصارهِ المتفحصة عليها، علق ثوبها الرقيق في تصميمهِ بعيناه، حاول تحاشي النظر المطول إليها، لكنه لم يقوَ السيطرة على نفسهِ، حتى إنه عجّل من إنهاء مكالمته الهاتفية حتى ينتبه بكامل تركيزه معها. ألتقيا في نقطةٍ بالمنتصف، فـ بادرت "نغم" تسأله :
- رايح فين بالشياكة دي؟.
لم يُحيد عيناه عن النظر المتعمق إليها، وهو يجيب بهدوء ليس من شيمتهِ :
- نفس المكان اللي انتي ريحاه بالحلاوة دي.
ثم أجفل بصرهِ ممررًا إياه على ثوبها :
- مكنتش أعرف إن زؤك حلو في الفساتين!.
ابتسمت بوداعةٍ، وهي تحني بصرها نحو الفستان قائلة برقة :
- ميـرسي.
ثم تجهم وجهها وهي تتابع :
- إنت مقولتش إنك رايح فرح رضوى !؟.
دس يُمناه في جيب بنطاله، وأردف :
- عادي، طقت في دماغي أروح.. في عندك أي إعتراض؟.
فـ هزت كتفها نافية :
- لأ.
فلم يتخلى عن الرد الحازم گعادتهِ :
- ولو عندك عادي، نسيتي إني قولتلك مش هتروحي حته غير معايا بعد اللي حصل!! أفرضي مكنتش رايح!.
فأفصحت عن خطتها البديلة :
- كنت هروح مع سيف وهند زمايلي.
عبس وجهه فجأة، وذمّ على شفتيه بإنفعال لم يظهر كاملًا :
- سـيف!!.
نفخ محيدًا وجهه عنها، ثم هتف بـ :
- معلش بقى تبقي تعتذريله عشان هتروحي وترجعي معايا أنا.
ثم أفسح الطريق أمامها و :
- أتفضلي.
تثنت في مشيتها أمامهِ، مُلاحظة ذلك التغيير الجذري الذي اعتراه، كأنه بعفوية أثار انتباهها لأمرٍ لم تكن تدركهُ، إنه يـغار عليها، وبدا ذلك جليًا مع تواجد طرف ذكوري آخر بالموضوع. تلك الفكرة جعلتها تبدأ سهرتها بسعادةٍ عارمة، متخيلة ما الذي ستؤول إليه الأمور إن استغلت ذلك لصالحها، لتليين قلبهِ القاسي عليها قليلًا. سارت حتى باب السيارة وهو من خلفها، ظنت إنه سيقوم بصنيعًا لبقًا ويفتح لها الباب، لكنه استدار حول السيارة ليستقر في مقعدهِ خلف المقود ، وحينما وجدها ساهمة النظر تقف متجمدة بجوار الباب، لوح لها بيده وقد قرأ بيسرٍ ما جال بخاطرها :
- سرحتي في إيـه!؟.. أكيد مش مستنياني أفتح لسمو الأميرة باب العربية وأركبها بنفسي!.
تلوت شفتيها بإستهجان، وهمّت تصعد للسيارة بنفسها وبحركة متئدة تأثرًا بفستانها الضيق. نظرت أمامها بوجوم، فأراد أن يلاطفها قليلًا، حتى لا تبدأ الليلة بأحداثٍ كارثية، من ذاك العقل الصغير المتعنت :
- ما شاء الله صارفة ومكلفة، فستان وجزمة وعقد جديد، خير في حاجه تانية مجهزة نفسك ليها غير الفرح؟.
فـ ابتغت بردّها أن تشعل فتيل غيرتهِ، علهُ ينفجر في وجهه :
- آه، إحتمال أكون معزومة على العشا.
أطبقت أصابعهِ بغيظٍ مكتوم على المقود، حتى تحول جلدهِ للبياض، وزجرها بنظرة محتقنة، جعلتها تتراجع عن النظر المتحدي له، كي لا يفسد يومها، وأردفت متابعة :
- وإحتمال لأ يعني، معرفش.
كظم إنفعالهِ، وهتف بنبرة بدت عالية إلى حدٍ ما :
- أنا رأيي تسكتي خالص، كلامك بيعمل مشاكل.
وشرع في إقتياد السيارة، قبيل أن يفكر فعليًا في التراجع عن حضور الحفل، وإجبارها على العودة من حيثُ أتـت.
****************************************
كان يراقبها عن كثب، متعمدًا إظهار عيناه المتربصة بها من حينٍ لآخر، لتدرك إنها محطّ أنظارهِ. تركت "نغم" مباركة العروسين ومشاركة المزاح مع رفاقها، ثم توجهت نحو الطاولة الدائرية التي يجلس "يزيد" عليها بمفرده. جلس بالقرب منه، ثم أردفت بصوتٍ مرتفع، غاب بين الصخب المحيط بهم :
- لـيه مسلمتش عليهم؟
لم يستطع سماعها، فـ انحنى نحوها قليلًا، وأشار لأذنه كي تعيد ما قالته مرة أخرى :
- بـقولك ليه مسلمتش على رضـوى وعريـسها؟.
- مش بحب أسلم على حد معرفوش.
قالها بعدما رفع بصرهٍ نحوها، بدون أن يشعر بقرب المسافة بينهما لهذه الدرجة، حتى رأى نصب عينيه كيف تنظر له، وكأنه هدية نزلت من السماء. نظرتها الوالهة جعلت فيضان من المشاعر ينجرف بصدرهِ، ليذكرهُ بمشاعرٍ شبيهه عاش تفاصيلها من قبل. تاهت عيناه وهو يتطلع إليها گالذي غرق، وبقى وضعهم المستثير للأنظار هكذا حتى التفتت بعض الأعين إليهم.
راقبتهم تلك الفتاة بنظراتٍ مختلسة، ثم تحدثت لرفيقتها بلهجة واثقة :
- أحلفلك بأيه عشان تصدقي، والله أنا متأكدة إن في حاجه بينهم، مش شايفة بعينك!! ومن يومين كانوا داخلين زي الحبيبة في الشركة!.
تنهدت الأخرى وقد تعاظم الحقد بداخلها، وأردفت بنبرة أشعّت فيها الغيرة :
- رسمتها صح، مكملتش كام شهر شغل ولطشت يزيد بنفسه!.. صحيح قادرة.
ضحكت رفيقتها وتابعت بتسلية :
- هي كانت تطول واحد زيه!! مش بعيد بكرة يتجوزها.. ساعتها يبقى أمها دعت لها.
بدأ السكون يعمّ المكان، حينما زحف الجميع بشكل متناسق نحو (البوفية) لتناول وجبة العشاء، حتى العروسين قد غادروا منصتهم أيضًا، بقيت "نغم" على طاولتها بمفردها بتوجيه من "يزيد"، والبعض لم يغادروا أماكنهم. نظرت "نغم" حولها تبحث عنه، ثم تأففت بضجر وهي تفكر بصوت مرتفع :
- ياترى أتأخر ليه؟.
دقيقة فصلت بينها وبين عودته، جاء خالي الوفاض، بدون أن يجلب لها أي شئ تتناوله، حدقت به وهو يقترب منها، وحينما جلس بمكانه سألته مشدوهة :
- إيه ده؟؟ إنت آ.....
وضع النادل طبق كبير مكون من أشكال مختلفة من الأطعمة أمامها، وأردف :
- بالهنا والشفا يافندم.
فأومأ "يزيد" برأسه شاكرًا :
- شكرًا.
انصرف النادل، فبرر "يزيد" عودته منفردًا :
- أكيد مش هجيب الطبق وأمشي بيه في القاعة!.
ثم أشار للطعام وتابع :
- جبتلك أكل يومين قدام أهو، عشان متجيبش سيرة عشا برا دي وتعصبيني على الفاضي.
ضحكت وهي تنظر للطبق، ثم سألته :
- مش هتاكل حاجه ؟؟
- لأ، شبعان.
وقبل أن تبدأ بتناوله كان يسألها بإقتضاب :
- أمال سيف مجاش ليه؟ خير يعني!.
فأجابت قبل أن تضع الطعام في فمها :
- مامته تعبت وقعد معاها.
ارتفع حاجبيه بشدوه، وأنتبه للقسم الأهم فيما قالت :
- وإنتي عرفتي منين؟.
لاثت الطعام بيت فكيها، ثم أردفت بعد ابتلاعه :
- كلمني وقالي.
عضّ "يزيد" على شفتهِ السفلى، ثم غمغم بـ :
- ده الموضوع فيه تليفونات كمان!.
انسجمت آذانها الصاغية، لتلك النغمات الهادئة، التي تم تشغيلها گفاصل إعلاني، لحين استئناف الحفل، وتابعت تناول طعامها بهدوء، بدون أن تفسد زينتها. رغبت كثيرًا في الإلتفات ومشاهدة تعابيرهِ الممتعضة الآن؛ لكنها أثرت ألا تفعل، حتى لا تكشف له علمها بما يستشعره هو. كبحت مشاعرها داخلها، واكتفت بعيش شعور السعادة وحدها، من هذا التطور الذي أحرزتهُ علاقتهم التي على شفا حفرة من بدايتها.
****************************************
مكثت أغلب الوقت على المقعد المتحرك، أمام الشرفة المُطلة على أحد الشوارع الرئيسية، والتي تتخذ موقعًا استراتيچيًا رائعًا. حيث القرب من نهر النيل، مما سهلّ على الهواء مهمة حمل رذاذ النيل ورائحتهِ للأنفاس. أغلقت "ملك" الكتاب الذي تقرأه وقد فقدت شغفها لإستكماله، بعدما بدأت وخزات مؤلمة، توخز جانبيها الأيمن والأيسر على حد السواء. ازدردت ريقها بتوجسٍ، خيفة أن يتطور الأمر معها مثلما حدث منذ يومين. حاولت أن تدفع المقعد نحو الفراش، كي تتصل وتطلب المساعدة من ممرضي الطابق؛ لكن قوتها الواهية فشلت حتى في ذلك، فبدأت الآلام تهاجم سائر بدنها - لا سيما جانبيها - بشراسة أكبر. اضطربت أنفاسها وهي تستند على المقعد لتنهض بنفسها، وضغطت على ساقيها ببطءٍ لئلا تتأذى مواضع إصابتها، خطت خطوة واحدة، فـ اشتد الألم لتنفلت منها صرخة متآوهه، وإذ بها تنطرح على الأرضية فجأة، غير قادرة على مواجهة كل هذا الألم المميت في قوتهِ، وتعالت صرخاتها المستغيثة بتوالي، وقد دبّ الذعر في أوصالها.
*****************************************
نظر في ساعتهِ، وضغط على شفتيه قائلًا :
- مش هينفع يانغم دلوقتي.. الساعة داخله على ١ بعد نص الليل.
كانت الظُلمة الكاحلة، والهدوء الشديد، يعمّان الأجواء في تلك الساعة المتأخرة، خاصةً إنه ذروة الشتاء. رغم ذلك لم تعدل "نغم" عن رغبتها، وتشددت فيها مبررة ذلك :
- معلش لازم أروح، أنا مأخدتش كل حاجتي المهمة ومحتاجة حاجات من هناك.
زفر "يزيد" بصوت مسموع، ووزع نظراتهِ المكفهرة بينها وبين الطريق الذي يسير فيه بسيارتهِ :
- مش فاهم حاجات إيه اللي ضروري تجيبيها من بيتك دلوقتي!! ما تشتري بدالها وخلاص.
- مش هينفع.
طرق "يزيد" على المقود ، قبيل أن يدعس على أبواق السيارة لتبتعد عنه السيارة التي تسبقه وتتيح له الطريق، ظلت عيناها عليه تنتظر جوابه، لكنه لم يحرك ساكنًا، فقط انتبهت إنه استبدل مسارهِ الرئيسي بآخر، حتى يذهب بها إلى منطقتها السكنية، لتجلب من هناك كل ما تحتاجه. ارتاح داخلها قليلًا، وأثرت الصمت بين هذه الأجواء المشحونة بينهما. اقترب كثيرًا من الشارع الرئيسي المؤدي لمنزلها، فـ أشارت له كي يتوقف جانبًا :
- ممكن أنزل هنا.
لم يتوقف عن قيادته؛ لكنه تسائل بفضول :
- ليه إن شاء الله!؟.
تأففت "نغم" بإنزعاج، وهي تكتف ساعديها أمام صدرها :
- مش معقول كل شوية نيجي هنا بعربيتك والناس تشوفنا!.. إحنا في منطقة شعبية وكلام الناس مبيرحمش.
لاحت إبتسامة مستخفة على محياه، وهو يذكرها بفعلتها الجريئة منذ يومان :
- مين اللي بيكلم! نغم؟؟.. أمال اللي حصل في الشركة من يومين مين اللي عمله!؟.
انفعلت غير قادرة على كبح جماح غضبها المتفاقم منه، وصاحت بدون إكتراث :
- دي حاجه ودي حاجه.. إنت كده مش بتردهالي إنت بتأذيني.
توقفت السيارة فجأة، نظرت، فإذا بها أمام البناية العتيقة التي تقطن بها. خمد جسدها على المقعد بإستسلام، بعد أن نفذ هو رغبتهِ گالعادة. التفتت رأسه نحوها بعد أن أوقف المحرك، وقال بجدية واجبة :
- أنا عمري ما هأذيكي، واللي يتكلم عنك كلمة هقطع لسانه.
وأشار لها لتترجل :
- يلا عشان نلحق نرجع، زمان نينة مستنيانا.
عبارته بثت فيها بعض الطمأنينة، لكن قلقها لم يزل بعد. ترجلت اضطراريًا، فترجل هو الآخر، نظرت نحوه بإستجداء و :
- خليك هنا على الأقل.
فأكد على ذلك :
- متقلقيش مستني هنا، بس متتأخريش.
حطّ عليهم صوتٍ جهوري خشن من الخلف، جعل كلاهما يتصلب في مكانهِ من حدة وقعهِ عليهم، وبالأخص "نغم" :
- يعني كل اللي اتقـال صح يا بنت أخـويـا!.
سرعان ما التفتت بإتجاه الصوت، وقد سرت إرتجافة عنيفة في كيانها الذي تزعزع توًا، وبهت وجهها المتجمد فجأة وشفتاها المرتعشتين تتلفظا بـ :
- عـ.. ـمي!!.
دنى منها بخطوات متهجمة، وكأنه سينقض عليها إنقضاضًا متوحشًا :
- سايبة أهلك وعيشتك حدانا "عندنا"، وقاعدة هنا تتمسخري على كيفك...
شهقت بفزع وهي ترى إندفاعه الوحشي نحوها، وغطت وجهها بكلتا يديها بفطرة دفاعية، كي لا ترى ما قد يحلّ بها، حينما كان "يزيد" يتدخل في الأمر بدورهِ، ويقف حائلًا أمامها يمنعه من هجومه عليها :
- إنت بــتــعـمــل إيــه ياجـدع إنـت!! ؟.
فقبض "بهجت" على ياقتهِ بعصبية جليّة، وهو يحاول دفعهِ من أمامه صائحًا في وجهه :
- بعد عني يا ×××× إنت، لسالي شغل معاك بعد ما أغـسل عاري وعـار أخويا الله يرحمه.
تدخلت "نغم" في الحوار، وقد غلب البكاء على نبرتها المذعورة :
- عمي إنت مش فاهم والله، مفيش حاجه من اللي بتقولها دي صح!.
كافح "بهجت" ليطالها بذراعهِ رغمًا عن "يزيد"، لكن الأخير كان قويًا عفيًا وهو يصد آذاه عنها :
- هو إيـه اللي فهمته غلط!! حطيتي راسنا في الأرض وتقوليلي مش فاهم.. أنا اللي غلطت لما طاوعتك وسيبتك تنزلي مصر عشان تكملي علام، افتكرتك هتحافظي على نفسك وعلى شرفك، لكن تـ ××××× كده عيني عينك، يابـجـاحـتك!.
دفعهُ "يزيد" دفعة واحدة كي يرتد للخلف، وزأر بصوتٍ منفعل وقد تمكنت الحُمرة الغاضبة من وجهه :
- ما تسمع الكلمتين ياعم إنت وبعدين أحكم.. إنت متعرفش حاجه.
تجاهله "بهجت" كأنه لم يتحدث قط، وأوجه حديثه المتوعد والمقترن بقسمٍ عظيم :
- قسمًا بالله لأكـون قـاتـلك ومتاويكي"يخفيها" يانغم.
وهمّ جسدهِ الثقيل يتهجم عليهما من جديد، وبإنفعالٍ أكبر :
- هـــقــتــلك يا ××××××.
تلقى "بهجت" فجأة ضربة عنيفة بمنتصف أنفهِ، أصابته بدوّار مفاجئ، وأخرى أشد قسوة، ثم دحرهُ للخلف حتى سقط متأثرًا بآلامه ودوار رأسه. صرخت "نغم" وهي ترى ذلك المشهد الذي أرعبها، وقد عاشت مشاعرٍ مميتة زرعت الوجل في أغوارها. حاولت أن تمنع نفسها من الإنسياق خلف حمايته لها، لكنه كان شديد الإصرار :
- يزيد مش هينفع، لازم أشـرحله.
فلم يترك لها فرصة لأي اختيار آخر :
- مينفعش دلوقتي.
اجتذبها "يزيد" بعجلٍ وأجلسها في السيارة وأوصد الباب عليها، بينما كانت تنظر بعينين زائغتين مرتعبتين حولها، لترى أمام عيناها نظرات الجميع لها، وكأن في أعينهم ألسنه سليطة تسلطت عليها. نهض "بهجت" مترنحًا، وضرب على السيارة بعنف بينما كان "يزيد" الخروج من هنا بها :
- أفتـح يا ××××× واخدها فين تاني يا ××××× وديني ما هسيبك تفلت من يدي.
أصاب زجاج السيارة الأمامي بشرخ بازغ، لم يكتفي بذلك وضرب الزجاج مرة أخرى مستخدمًا حجر ثقيل، فـ انتثرت قطع الزجاج بداخل السيارة وخارجها، ممتزجة بصوت صراخ "نغم" المستغيث وبكائها المنهمر، بعدما وصلت لحالٍ سئ للغاية، فـ القادم عليها سيكون كارثي بالمعنى الحرفي، ولن تنجو من براثن عمها وأبناءهِ بسـهولـة أبـدًا...
يتبع.....
لقراءة الفصل الثاني والثمنون : اضغط هنا
لقراءة باقي فصول الرواية : اضغط هنا
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات