القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية دمية مطرزة بالحب الفصل التاسع والستون 69 بقلم ياسمين عادل

 رواية دمية مطرزة بالحب الفصل التاسع والستون 69 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل التاسع والستون 69 بقلم ياسمين عادل

رواية دمية مطرزة بالحب الفصل التاسع والستون 69 بقلم ياسمين عادل

إن أوقظت أسد نائم، عليك أن تتحمل دويِّ زئيرهِ."
_________________________________________
حتى وإن لم تحصل على مرادها الذي ركضت من خلفهِ منذ البداية، مجرد إصابة "ملك" واحتمالية موتها وفقدان "يونس" لها، أججت زهوة الإنتصار المؤقت في صدرها، أحست وكأنها ترد الصفعة التي ضربتها هي بنفسها لنفسها، حينما ظنت إنها ستتخلص بسهولة من "يونس" وإذ بها تخسر ابنتها الوحيدة بدلًا عنه.
لم تبدو "غالية" متوترة أو ما شابه، لم تنفعل أو تفقد أعصابها بعد فشل مخططها الحقير، مما استرعى ذهول "زهدي" الممشوج بـ غيظهِ منها.. ران إليها بنظراتٍ مُبهمة، ثم سأل بلهجة محتقنة :
- أنتي مبتسمة ومبسوطة على إيه!! أنا مبقتش فاهمك ياغالية.. من ناحية مأخدتيش الحصان، وناحية تانية الراجل بتاعنا في أيد يونس، وناحية تالته البت اللي اتصابت وبيقولوا إنها بنت عمه!

ثم هبّ واقفًا بـ اندفاع وهو يتابع :
- إحنا كده رايحين في أبو نكلة "داهيه"!

فـ وقفت "غالية" عن جلستها المستريحة، وبقيت قبالتهِ واقفة بثبات وهي تقول بفتور شديد :
- الضربة دي لوحدها انتصار، إحنا كده هنخلي يونس يلف حوالين نفسه

فـ لم يتفق معها في الرأي و :
- لأ وانتي الصادقة، ده هيلف حوالينا احنا!

وتأفف منزعجًا منها وهو يستطرد :
- غالية لو عايزانا نكمل في القصة دي، لازم تفهميني هدفك الحقيقي.. أنتي مبقتيش عايزة مجرد فرسة ، أنتي بالشكل ده عايزة يونس نفسه

فـ اجتزّت على أسنانها بكراهية لم تواريها، وأردفت بـ :
- ياريت أطوله، على الأقل أشفي غليلي وآخد حق بنتي

فـ ضحك "زهدي" مستخفًا من زاوية فمهِ، مستنكرًا عليها تصديقها لتلك الكذبة :
- ما تضحكي على حد تاني يالولو، حق مين اللي تاخديه!

ودنى منها بضع خطوات وهو يتابع بصوت أخفضهُ ليكون وقعهِ أكثر تأثيرًا :
- الله يرحمها انتي السبب في موتها، لو نسيتي أفكرك.. ده انا بنفسي اللي مدبر الواد بتاع البوفية اللي دس السم في الأكل عشان يطفحه هو.. بس ربنا ردها في البت وحرمك منها

توقدت النيران في صدرها، وتصارعت لـ تنهش في ضلوعها بلا رحمة، مع تذكر تفاصيل تلك الحادثة التي أنهت فيها حياة "هانيا" بيدها؛ يزداد سعيرها الذي تعيش فيه منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات.
امتلأت نظراتها بالشر الدفين، وتفوهت بكلماتٍ ما زالت تقنع نفسها بإنها حقيقة :
- هو السبب، لولاه كان زمان هانيا في حضني

أشاح "زهدي" بيدهِ تعبيرًا عن قنوطه من سماع أكاذيب تصدقها وحدها، وابتعد عنها وهو يغمغم بسخطٍ :
- لسه مصدقة نفسها وهتودينا في داهية!

ومشى صوب الباب ليخرج ويتركها تعيش في الأوهام وحدها، لم يتحمل سماع تراهاتٍ أكثر من ذلك ، بينما هو أعرف الناس بالحقيقة، وبـ خبايا المستور الذي ما زال طي الكتمان لا يعلمه أحد.. لكن حتمًا لن يظل على وضعيتهِ السرية تلك، سينكشف مهما مضى من وقت، حينها سينال كُل ذي حقٍ حقهِ.
............................................................................
نظر إليها من مسافة بعيدة حينما كانت "كاريمان" بالداخل تطمئن عليها، ظنّ إنه سيتلهف للدخول ليطل عليها بعيناه ويُشبع فقرهِ المُدقع للنظر إليها.. لكن قلبهِ لم يتحمل، لم يقوَ على رؤيتها في تلك الحالة التي يعتبر نفسهِ جزءًا منها، وحبذ أن يكون بعيدًا.. على الأقل الآن.
تحسس (الكوفية) الصوفية التي يمسك بها، ونظر إليها وكُلهِ رجاء، أن تنهض "ملك" من رقدتها وتُلبسهُ إياها بيديها.. تنهد بثقلٍ حاول أن يرميهِ عن عاتقيهِ، وأطبق جفونهِ هامسًا :
- يارب

شعر بقبضة كف على كتفهِ، فـ التفت برأسه ليرى "يزيد" بجوارهِ يجاهد لـ مُآزرتهِ.. زفر "يونس" مختنقًا يجثم الحزن على صدرهِ، وسأل بـ اهتمام :
- دكتور حبيب كلمك؟
- لأ، أول ما يوصل لحاجه هيكلمنا.. متخافش يايونس، إن شاء الله سليمة

فـ افترض "يونس" الجانب السئ للأمر:
- أفرض ملقيناش متبرع! أو ملقيناش كلية مطابقة!

والتفت ينظر لـ شقيقهِ بعينان تلمعان بحزن بيّن، قرأ فيهما "يزيد" ما يفكر فيه "يونس"، فـ احتدم صوتهِ وهو يقطع عليه هذا الطريق لئلا يفكر فيه :
- أنسى اللي بتفكر فيه ده يايونس، مش هيحصل لو على جثتي، أنا مش هعرض حياة أخويا للخطر.. إن شاء الله هنلاقي اللي بندور عليه وربنا مش هيخذلنا

عاد "يونس" ينظر نحو بابها، فـ قال "يزيد" :
- أدخلها يايونس، شوفها يمكن ترتاح

فـ هزّ "يونس" رأسهِ رافضًا وبشدة، وابتعد عن الباب وهو يقول :
- مش قـادر ، مش هـقدر أشوفها تاني وهي كده

وابتعد عن الممر نهائيًا لـ يلحق به "عيسى"، استعاد "يونس" ثباتهِ المهزوز وهو يسير بعيدًا حتى وصل أمام المصعد.. وهناك توقف لـ يُملي أوامرهِ على "عيسى" قبل أن يخرج من هنا :
- ملك أمانة عند ربنا ثم عندك انت ويزيد ياعيسى، وأنا هروح مشوار وأرجع على طول

فـ اقترح عليه "عيسى" :
- طب ما يزيد باشا معاها وأنا آجي معاك ياباشا

فـ رفض "يونس" بدون أن يوليه فرصة للأعتراض و :
- أعمل اللي قولتلك عليه ياعيسى، خليك هنا معاهم.. متنساش إن نينة وخديجة كمان هنا

فـ أومأ "عيسى" و :
- اللي تشوفه سعادتك

استقل "يونس" المصعد، وهبط به للأسفل، كي يخطو أولى خطواتهِ.. ليضرب بعنف على الحديد وهو ساخن، لن يترك يومًا يمر هكذا بدون أن يمتلك المفاتيح التي ستفتح له كل الأبواب المغلقة، فـ هذه المرة لن يترك شيئًا للحظ أو الصدفة، بل سيجلب بنفسهِ العدالة.. لتسير في مجراها.
..............................................................................
تبدد الغَسَق، وبقيت ساعات الليل الأخيرة بـ ظلامها الدامس رفيقة له طيلة طريق الذهاب للمزرعة، حتى ساعات الفجر لم تكشف بعد عن بداية الشروق البعيد.
دخول المزرعة في ذلك التوقيت، وهو يعلم إنها ليست بداخلها، بل كادت تفقد حياتها بالكامل فيها، كان موحشًا بالنسبة له.. شعور في منتهى الألم يجابهه وحده، وسط صوت هرير الرياح وكأنها بداية عاصفة تعصف بـ آذانهِ.
خطى نحو الداخل بخطواتٍ يدفعها عنوة ، كأن ساقيهِ يرفضان الدخول.. استند على الدرابزون منتويًا الصعود لغرفتها، كي يشتم رائحتها قليلًا، وينعم بدفء المكان الأخير الذي ضمّها بين جدرانهِ وهو غائب.
فتح الباب، فـ حملت الرياح رائحتها لـ تتسلل إلى أنفهِ بكل سهولة، أقشعر بدنهِ متأثرًا بها حتى وهي غير متواجدة، ودخل بتؤدة.. يلقي نظراتهِ هنا وهناك، حتى رأى كرة خيط الصوف الأسود الذي أحاكت منه تلك الكوفية له، ابتسم رغمًا عنه، وعاد يشمل كل شئ من جديد، حتى وقعت أنظارهِ على فستانها الأبيض المغلف الذي علقتهُ في مكانٍ قريب ليبقى أمام عيناها دائمًا.. عرفت الدموع الطريق لعيناه من جديد، ولمعت بوميضٍ حزين وهو يدنو من ذلك الثوب الذي لم تهنأ بـ ارتدائهِ، لم يستطع لمسهِ.. يكاد صدرهِ يحترق من فرط اللهيب المُسعّر فيه، فـ أشاح بوجهه عنه وأجفل جفونهِ نحو الأرض.
انفتح الباب الموارب وأطل منه "مهدي"، كان وجههِ جادًا وهو يقول :
- الواد إياه لسه في الحظيرة، أنا فتحت عيني كويس أحسن يفوق ويهرب

استعاد "يونس" رباطة جأشهِ، وتجمدت كل مشاعرهِ في هذه اللحظة، مستعيدًا غضبهِ الأعمى كي يُفرغهُ عليه، ترك "يونس" كل شئ جانبًا.. شخصيتهِ، أخلاقهِ الرفيعة، مبادئهِ، وحتى ثباتهِ وهدوءهِ.
واسترعى فقط تلك السمة السيئة فيه، عاش "يونس" حياتهِ متدربًا بشكل جيد للغاية للتحكم في أعصابهِ، فلم يُشبهِ أخيه وأبيهِ في غضبهم وتهورهم، ولكنهُ إن ترك نفسهِ للغضب كي يتمكنّ منه، يخرج من داخلهِ إنسان حتى هو لا يعرفهُ.. إنسان أسوأ من الجميع، في سبيل تحقيق العدالة، وفي سبيل الحصول على حقهِ، يفعل ما يتوجب وإن كان ذلك مُنافيًا للقوانين التي وضعها لنفسهِ.
دلف "يونس" للمطبخ، بحث عن شئ ما يناسب تمامًا الأفكار العنيفة الدموية التي تملكت منه، جال بمخيلتهِ أفكار شديدة القسوة، قد تصلح لتصوير فيلم رعب سينمائي من فرط قوتها.
وجد ساطور معدني حاد لتقطيع اللحم، تفحص نصلهِ بتدقيق وعيناه تقدحان بالشر، ثم خرج موفضًا كي يواجه ذلك الأرعن ويُلقنهُ درس لن ينساه؛ إن كُتب له عمر خارج هذا المكان.

لم يشعر "حمادة" بأي شئ من حولهِ، منذ أن تلقى ذلك الدرس القاسي من "ريحان" التي تهجمت عليه بكل قوة لتثأر منه وهو غائب عن الوعي تمامًا.
أحدثت ضربات "ريحان" إصابات وتورمات في سائر الجسم كله، ورأسهِ خاصةً.. شملهُ "يونس" بنظراتٍ تطاير من بينها الشر، وضع مقعد وجلس أمامهِ، استند بذراعيهِ على ظهر المقعد حيث وضعه بالشكل المعكوس، فرك برفق طرف ذقنهِ وهو يحدجهُ بـ اشتطاط، لا يتحمل انتظاره ليفيق.. فـ وقف عن مجلسهِ، تناول دلو المياة المُثلجة التي وضع فيها قطع من الثلج لتزيد برودتها، ثم قذفهُ بقوة لـ ترتطم قطع الثلج برأس "حمادة"، فـ شهق شهقة عالية بالكاد وصلت لمسامع "يونس" ، فـ ألقى الأخير الدلو فارغًا، وخطا خطوة حذرة نحوهِ حينما رفع "حمادة" بصرهِ المشوش نحو الفاعل وجسدهِ يرتجف من شدة البرد، ثم هدر بصوتٍ مبحوح :
- أنت مين ياجدع انت؟؟

بـ حفاظ على تلك النبرة الهادئة والصوت المنخفض، أردف "يونس" :
- أنا صاحب المكان اللي انت دخلتهُ سرقة

ثم ضرب بخفة على وجهه وهو يسأله بنبرة صارمة تغيرت خلال ثانية واحدة :
- أنت بقا تبع مين ودخلت هنا ليه!

اضطرب، وارتعشت أطرافهِ.. من ناحية ذلك البرد القارص الذي يهاجمه، وناحية أخرى تلك المواجهه التي لم يفكر فيها.. انعقد لسانهِ للحظات حاول بعدها أن يظهر عتيًّا وكأنه لم يهتز لحظة :
- أنا معرفش حاجه

غرز "يونس" إبهامهِ في منتصف قصبتهِ الهوائية، كاد يكسرها بضغطة واحدة منه، فـ شحب وجه "حمادة" وجحظت عيناه، ظن إنه سيفارق الحياة لا محالة، ولكنهُ أفلتهُ فجأة وهو يزأر فيه بـ اهتياج :
- أنت هتستعبط عليا ياروح أمك!.. فاكرني آ ××××× وهيخيل عليا كلامك!.. أنا بـ أديك الفرصة الأخيرة لو عايز لسه تعيش

ثم اجتذب ثيابه وهو يرمقهُ بـ احتقار و :
- أنجز أنا مش فاضيلك، لسه ورايا ليلة كبيرة مع اللي باعتك

ثم لكزهُ بقبضتهِ ومن بين أسنانهِ قال :
- جيت هنا لــيه وعايز إيه؟

فـ بادله "حمادة" بنظرات بغيضة وأجاب :
- من الآخر جيت علشان الحصان الأبيض، أي حاجه تاني معرفهاش

ربط "يونس" الأحداث التي وقعت تباعًا، حتى وصل الأمر لـ اعتداء "ريحان" الوحشي عليه، فـ أيقن إنه المُتسبب في طعن "ملك" لا محالة، لمعت عيناه بنذير شر غير مبشر وهو يرفع جسدهِ المنحني عنه، وسأل بصوتٍ خلت من الروح :
- أنت اللي طعنت ملك؟؟

فـ ارتبك "حمادة" فورًا وأبعد بعيناه عنه وهو يردف بتوترٍ ملحوظ :
- هي مين دي؟ معرفهاش

ابتعد "يونس" خطوتين لليسار، تناول الساطور الحاد ثم عاد إليه وهو يردف بنبرة أشد قوة :
- مش هكرر السؤال مرة تالته، أنت اللي ضربت ملك؟!

إمتثل "حمادة" عدم اهتزازهِ وتأثرهِ بذلك السلاح المعدني، رغم أنه بالداخل يرتعد خوفًا، وصاح معترضًا وهو يُشير ليداه المُكبلة :

- فك إيدي أحسنلك ياأخينا، أنا معرفش حاجه من اللي بتهبد فيها وبتقولها دي!!

في لحظة واحدة، وبغفوة من الزمن لم يشعر بها ذلك الأرعن اللعين، رفع "يونس" ذراعهِ بالساطور عاليًا، وضرب ضربة واحدة فصلت يد "حمادة" عن ذراعهِ، وسط صراخٍ مستغيث صدحت أصداءهِ في المُحيط ولم يتوقف.
لم يهتز "يونس" قيد أنملة، بل أن صياحهِ الهادر امتشج بـ صوت صراخ "حمادة" وهو يقول :
- تخيل ده تمن طعنة، أمال لو جرالها حاجه هعمل فيك إيــه!؟

وتابع بصوتٍ أعلى تبيّن فيه صدق وعيدهِ :
- هـاخـد روحــك ساعتها

لم يستطع "حمادة" البكاء من قوة آلامهِ، أحس وكأن الروح تتسرب منهُ عن طريق يدهِ المبتورة، الوجع كان شعورًا لم يتحملهُ، فـ نظر بـ عينان راجيتان لـ "يونس" وقال بصوتِ امتزج بأنين الوجع :
- أنا ماليش دعوة بحاجه، أنا بنفذ بس

وضع "يونس" نصل الساطور الذي تلطخ بالدماء على طرف نحرهِ، تحديدًا موضع العروق النابضة.. فـ ارتعدت أوصال "حمادة" بعد أن رأى نصب عينيهِ إن الأمر لا مزاح فيه، أردف "يونس" بصوتٍ أجش يهددهُ :
- كل حاجه، عايز أعـرف كل حاجه من طأطأ لسلامو عليكو زي ما بيقولو، وده في مصلحتك

فـ هزّ "حمادة" رأسهِ بهيستيريا وقال وهو يلعنها :
- هي الولية الحيزبونة الكبيرة السبب، هي اللي تستاهل حشّ رقبتها من أنا

فـ برقت عينا "يونس" وتحفزت حواسهِ مستعدًا للإنقضاض على أي كائن أمامهِ الآن، وأشار له كي يسترسل في الحديث :
- أنـجز.!

تبينّت ملامحه المرتعبة على تقاسيم وجههِ، وهو يفيض بكل شئ يعرفه عن الأمر، لم يكن قادرًا على تحمل آلامهِ الشديدة، خاصة وهو ينظر لـ كفّ يدهِ المبتور أمام ناظريه، ولكنه أجبر نفسهِ على التحدث خوفًا من عواقب الصمت الوخيمة :
- الأوامر اللي جت كانت كلها على الحصان، واتقالي بالحرف كده اللي يعترض طريقك.. أقطع خبرهُ...!.
......................................................................
إنه الثالث من -تشرين الأول-.
تدق الساعة التاسعة صباحًا.. مرت الساعات السابقة بصعوبة شديدة على الجميع، ولا سيما "نغم"، التي علمت مؤخرًا بشأن إصابة رفيقتها الأقرب والأحب "ملك"، ومصارعتها الموت طوال ساعات الليل.. هرعت من منزلها مستقلة سيارة "أوبر" نحو المشفى مباشرة، ودموعها لم تجف عن وجهها طوال الطريق، تأمل أن تتجاوز "ملك" تلك المحنة العصيبة كما تجاوزت الكثير.
حقًا تجاوزت الكثير!. فتاة في عُمر الثانية والعشرين عاشت كل تلك الآلام؛ لم ترى زهو الدنيا إلا في الأسابيع الأخيرة، وحتى تلك الفترة اتشحت بفقدان الضلع الأخير لها من أسرتها التي أفاقت منذ صِغرها على تشتتها.. تشفق عليها "نغم" وهي تُمرر بذهنها كل الذكريات والأحداث الشاقة التي مرت بها صديقتها، لو كان جبلًا لـ انهدم، أما هي، ظلت گالجذع القوي، تأثرت وتناثرت.. ولكنّها عاشت دائمًا على أمل أن يزهرّ الحُب في قلبها رغم كل ذلك، كأن قلبها قلبًا مُطرزًا بالحُب.
كان "يزيد" يجلس بالقرب من غرفتها برفقة "كاريمان" التي لم ترضى بأي شكل مغادرة المشفى وترك "ملك" هنا.
رأتهم "نغم" من أول الردهه، فـ ركضت نحوهم وهي تتنفس بصعوبة نتيجة هلعها حتى أشعرت "يزيد" بها ، فـ نهض الأخير وسار نحوها وهو يشير لها كي تهدأ وتتوقف حتى أصبح قبالتها :
- أقفي يانغم، أقفي وأهدي

رأى دموعها التي تركت أثرًا بين شعيرات أهدابها، وأحس بأنفاسها اللاهثة وهي تقول :
- هي حالتها إيه دلوقتي؟

فـ طمئنها قائلًا :
- أطمني مستقرة عن امبارح، مستنين بس رد المستشفى علينا بخصوص الكلية اللي بندور عليها

فسألت بتهلفٍ :
- طب وانتوا مش ولاد عمها! أكيد في حد فيكم ينفع؟

فـ هزّ "يزيد" رأسهِ بالسلب وهو يجيب آسفًا :
- سألنا الدكتور وأخد فصايل دمنا، للأسف مش مطابقين مع أنسجتها ولا أنا ولا يونس

فـ كادت تبكي من جديد وهي تقول :
- طب هنعمل إيه؟ أجرب أنا يمكن أنفع!

شده "يزيد" من جرأتها لـ اتخاذ قرار خطير ومصيري گهذا، قد يؤثر على صحتها العامة مستقبلًا، ولكنها تغاضت عن كل ذلك في سبيل أن تعود "ملك" بصحتها الجيدة وتكون بينهم من جديد.. تحولّت نظراتهِ للإعجاب بـ موقفها المُضحي الصادق الذي لم تنوي به سوى إنقاذ صديقتها، وأعرب عن ذلك بصراحة مطلقة :
- الحقيقة دي شجاعة منك مكنتش أتخيلها أبدًا!!

ثم أخفض بصرهِ عنها متابعًا :
- إحنا بعتنا فاكس للمستشفى في أمريكا وبندور مش ساكتين

مسحت دموعها وألقت بصرها للأمام وهي تسأل :
- طب هي فين أنا عايزة أشوفها؟

فـ أشار لها "يزيد" :
- هناك في آخر أوضة رعاية في على الشمال، لكن ممنوع الدخول بدون تعقيم

ظهر "يونس" آتيًا من أقصى الردهه، فـ تعلقت به نظرات "يزيد" منتظرًا اقترابه منهم و :
- أهو يونس رجع

تجاوزهم "يونس" وعبر من جوارهم كأن عقلهِ منشغلًا للحد الذي لم يُمكنه من رؤيتهم.. فـ أوفض "يزيد" نحوه واستوقفه قائلًا :
- أستنى يايونس، رايح فين؟

فـ كان "يونس" گالمُغيب الذي ظللت سحابة قاتمة فوق رأسهِ وهو يقول :
-هدخلها، عايز أشوفها مش متحمل أصبر أكتر من كده

فـ لفت" يزيد" انتباهه لـ مزيد من الحيطة في الأمر و :
- طب لازم تتعقم الأول
- مش هلمسها، هشوفها من بعيد بس

ولم يتحمل انتظارًا أكثر، أكله الشوق لأن يطل عليها فقط، نظرة بعيدة يُطمئن بها قلبهِ المرتجف خوفًا.
تركه "يونس" ومشى نحو الغرفة، فـ ذمّ "يزيد" شفتيهِ سويًا وعاد خطوتين حيث تقف "نغم" وعرض عليها أمرًا يُبعد بها عن هنا قليلًا :
- نغم ، خدي نينة وديها الإستراحة، بقالها ساعات قاعدة هنا رافضة تتحرك.. يمكن لما تيجي منك توافق

فـ مسحت "نغم" على وجهها بالمنديل لتزيل كل تلك الآثار الباكية، وتقدمت من" كاريمان" لتعرض عليها التحرك سويًا، كانت محاولاتها صعبة، ولكن في الأخير فلحت واجتذبتها معها للإبتعاد من هنا قليل من الوقت.
تتبعهم "يزيد" حتى انصرفوا، ثم سار متعجلًا نحو الغرفة ليرى كيف حال شقيقهِ.

كان "يونس" منحنيًا عليها، لمس بلمسةٍ حسيسة أطراف أناملها، فـ دبّت الحياة في أوصالهِ اليائسة.. تنفس من الأعماق وهو يهمس بـ :
- أنا مستنيكي، عارف إنك هترجعي عشاني

كانت الممرضة تُبدل المحاليل بأخرى بعدما أوشكت على النفاذ، ترى نصب عينيها تلك الحالة الفريدة من الحُب النقي الصادق، نمت بداخلها غبطةٍ وهي تبتسم على حالة "يونس" التي يجب أن تُدرس لـ عُشاق هذه الأيام، بينما كان "يونس" يسألها بـ اهتمام يكسوه القلق :
- هي مش هتفوق خالص؟
- إحنا بندعي ربنا متفوقش قبل ما نلاقي الكلية المطابقة، هتتعب أوي لو فاقت

بدأت صافرات الأجهزة الطبية تضطرب مُعلنة إشارةٍ ما.. فـ هرولت الممرضة نحوها و :
- أبعد لو سمحت

ارتجف "يونس" وعيناه مُرابطة بها، يراقب تحول لون وجهها للشحوب فجأة.. وانفعل فجأة وهو يقف عاجزًا عن مدّ يد العون لها :
- إيه اللي حصل!!

لمح "يزيد" من الخارج حركة غير طبيعية بالداخل، و "يونس" واقفًا بتلهفٍ مرتعب يفرك كفيهِ بتوتر سويًا.. فـ خطى "يزيد" خطوة للداخل ليرى تلك الممرضة تضخ الأبرة بداخل المحلول الموصول بوريد "ملك" وتُحدث زميلتها :
- ها؟

فـ بدأت الأخرى تقوم بعمل (مساج ضاغط) للقلب كي ينشط بعدما توقف عن النبض و :
- مفيش أكسچين واصل للمخ، خلي الدكتور ييجي بسرعة

فـ صاح "يونس" فيهم وعيناه عالقة بـ "ملك" ذات الوجه الباهت المصبوغ بالصُفرة القاتمة :
- إيه اللي حصلها فـجأة!

ثم وجه حديثه لها :
- مـلك أنا هـنا، مـــلك!

تحرك "يزيد" هيستيريًا في الغرفة، يخشى أن يفقدا الأمانة التي تركها عمهم، أن تضيع روحها للأبد.. حينها لن ينتهي الأمر، بل إنه سيبدأ، لن يتوانى "يونس" هذه المرة عن اجتثاء روح كل من تسبب في ذلك، ليس ذلك فـ حسب.. قد يحيا "يزيد" بدون شقيقهِ الذي سيعيش حياتهِ يتلوى بـ آلام تأنيب الضمير.
انقبض قلبهِ بتخوف وهو يرى حالة "يونس" المثيرة للشفقة، وقد صدح صوتهِ المُنهار في الطبيب الذي حضر توًا :
- أعــمل أي حــاجـه!

فـ أشار الطبيب للممرضة و :
- عايز ٥ مللي (......) ، وهاتي الجهاز بسرعة

لم تكن هناك فرصة أخرى سوى صعقها كهربيًا لتنشيط حركة القلب الذي خمد فجأة، ودرجة تشبع المخ بالأكسچين قد انهارت عن الحد المسموح به ودخلت في دائرة الخطر.. تكاتفت عليها كل العوامل في آنٍ واحد، وهي في حالة وهنة، كأنها سئمت من المحاربة من أجل أن تعيش.. لحظات عسيرة والجميع يقف على أعصابهِ، غير قادرين على توقّع السوء، فـ الأمل الوحيد هو أن تحيا، ما غير ذلك هو الجحيم بعينهِ.
يتبع.....
لقراءة الفصل السبعون : اضغط هنا
لقراءة باقي فصول الرواية : اضغط هنا
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات