القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثالث والستون 63 بقلم ياسمين عادل

 رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثالث والستون 63 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثالث والستون 63 بقلم ياسمين عادل

رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثالث والستون 63 بقلم ياسمين عادل

ليس الخوف من شعور السعادة، الخوف من أن لا تدوم."
_________________________________________
گالطير الذي يُحلّق في عنان السماء، مرفرفًا بـ جناحيهِ الطليقان بـ حرية، يرفض السجن وإن كانت أسياجهِ من ذهبٍ، تشبهت "ملك" بـ حال الطير الآن بعدما تخلصت من رهبتها وسبحت في عالمٍ لم يخلقهُ لها سواه، غرقت في شعور السعادة والنشوة.. وتركت ذراعيها متحرران في الهواء وهي ترتفع عن السرج كلما قفزت الفرسة "ريحان"، ولكن ذراعاه كانتا مُحكمتين عليها بشكلٍ أشعرها بالأمان.
طالت جولتهم قليلًا بدون أن تشعر "ملك" بمرور الوقت عليهم، حتى استمعت لصوت "يونس" وهو يسألها :
- مش كفاية كده؟

فـ رفضت أن يتوقفا الآن و :
- لأ لسه شوية، ملحقتش استمتع بيه

فلم يردّ مطلبها وظل يتجول بها لوقت إضافي، ثم بدأ يعود بها وقد هدأ ركض "ريحان" وسارت مُتهادية وهما على ظهرها عائدة بهم بالقرب من الحظيرة.. كانت شفتي "ملك" منبعجة بسعادة مفرطة، وكفيها على يديهِ الكبيرتين الممسكتين بـ لجام "ريحان".. وأراحت ظهرها على صدرهِ قليلًا وهي تتنفس بـ انتعاش قائلة :
- متخيلتش إن ركوب الخيل ممتع بالشكل ده!
- بس دي مش أي خيل خلي بالك، مع ريحان ليها متعة تانية خالص

تأهب "يونس" لـ يترجل عن ظهر "ريحان" ونزل عنه، ثم بسط لها ذراعيهِ وطوق خصرها وهو يعاونها في الهبوط حتى أصبحت قبالتهِ :
- اتبسطي يافراولة ؟

فـ ضحكت بـ استحياءٍ و :
- آه أوي

ولكن ثمة تردد بزغ في نظراتها أعلن عن توتر تحاول أن تُخفيهِ، فسألها مباشرة وهو يُهندم شعرها الذي تبعثر أثر الحركة والرياح :
- قولي عايزة تقولي إيه ومخبية !

فـ لم تُخفي الأمر عنه وصرحت فورًا عن حقيقة مخاوفها :
- خايفة الفرحة دي متدومش، أنا مفيش فرحة بتعيشلي، لازم يحصل حاجه في كل مرة بتبسط فيها

فـ سعى لـ إِبطال تأثير هذا الشعور عليها، وأكد لها متيقنًا من ذلك :
- المرة دي غير، أوعدك فرحتك هتدوم على عكس كل مرة.. صدقيني

فـ هزت كتفها الأيسر وتجاهلت مشاعر الخوف تلك مستمتعة باللحظة الراهنة :
- مصدقاك

كانت "نغم" إينذاك تقف على بُعد مسافة مقبولة لا تُمكنها من سماع حديثهم كي لا تطفل عليهم، وانتظرت حتى ينتهي حوارهم أولًا؛ ولكن "يونس" انتبه لها والتفت ليراها تقف بعيدًا عنهم ولا تنظر بـ اتجاههم، فـ صاحت "ملك" منادية عليها :
- نـغم

فـ خطت "نغم" مقتربة منهم، وقد غمرها التحمس الشديد لـ إقدامها على شئ گهذا تمنت القيام به دومًا.. ووقفت قبالتهم وهي تنظر إلى "ريحان" بنظراتٍ مُعجبة، ثم مدت كفها ومسحت على رأسها مُداعبة إياها بـ لطفٍ بالغ :
- حلوة أوي، إسمها إيه؟

فـ أفترت "ملك" ثغرها بـ ابتسامة وديعة وهي تُجيبها :
- ريحان

ثم سألها "يونس" :
- عايزة تركبي يانغم؟

فـ أجابت بتلهف :
- آآه

فـ أشار "يونس" نحو "فرحان" و :
- يبقى خليكي مع فرحان، ريحان مش هتعرفي تتحكمي فيها، شقية حبتين

فـ وافقت على الفور وانتقلت بـ خطاها نحو "فرحان" قائلة :
- مفيش مشكلة، شكله كيوت وهنعرف نتفاهم مع بعض

ضبط لها "يونس" السرج كي تعتلي الفرس، وسألها أثناء ذلك :
- ركبتي قبل كده ولا دي أول تجربة؟
- ركبت كتير
- جميل

ثم ابتعد قليلًا ليسمح لها بالصعود و :
- تعرفي تطلعي لوحدك؟؟

فـ لم تُجبه قولًا ، بل قفزت قفزة جريئة خاطفة أصبحت بعدها على ظهر الفرس.. كادت تسقط في بادئ الأمر من أعلاه وقد أهتز توازنها قليلًا؛ ولكنها أحكمتهُ من جديد وأمسكت باللجام جيدًا.. مسحت على ظهر "فرحان" بحنوٍ وكأنه تعارف جديد بينهم، ثم سحبت اللجام قليلًا كي تحثهُ على التحرك.. وبالفعل بدأ يركض بها رويدًا رويدًا.

—على جانب آخر—
كان "يزيد" يتطلع لكل ما يحدث من شُرفة الغرفة المُطلة على الحديقة والتي يمكث بها دائمًا عندما يأتي زائرًا إلى هنا.. وما أن رآها وقد بدأت تتحرك بالخيل برشاقةٍ وكأنها فارسة متدربة، حتى انزوت شفتيهِ بـ انزعاج وتمتم بـ :
- ياكش تقعي من عليه وتتكسر رجلك ونخلص!

ثم دلف للداخل وشرع في نزع قميصهِ عنه، مُستعيرًا أشياء من ثياب "يونس" لكي يقضي اليوم بحركة حُرة غير مُكتفة، "تيشيرت" قُطني أسود ثقيل رفع أكمامهِ لمنتصف عضدهِ، وبنطال أبيض بجانب حِذاء رياضي أسود داكن.. مشّط شعرهِ الذي تبعثر قليلًا، ثم مسح بـ كفيهِ على ذقنهِ وتناول هاتفهِ وخرج.
وضع الهاتف على أذنهِ مُنتظر رد الطرف الآخر ووقف في باحة الحديقة الواسعة ينظر مختلسًا صوب" نغم" التي انسجمت مع "فرحان" بشكلٍ أنساها أي شئ آخر، حتى أجاب "سيف" على اتصالهِ و :
- أيوة ياسيف، كان في ميعاد مع زُهدى بكرة بعد الضهر، ياريت تلغيه معاه بالنيابة عني وتعتذر منه

فرك "يزيد" أصابعهِ فـ شعر بـ خدشٍ سببه لنفسه بدون قصد، انتبه لبطن يده ولـ ظُفر أصبع الخِنصر خاصتهِ وهو يتابع حديثه مع "سيف" :
- عارف إنها تاني مرة، بس أنا كده كده ناوي أطنش الحوار كله، فـ عادي بقى

رفع بصرهِ حيال "نغم" من جديد ولكنه لم يراها، فـ بحث بعيناه عنها حتى وجد "فرحان" يركض بها ركضًا سريعًا للغاية، فـ قطب جبينه متابعًا حركة الخيل وهي أعلاه كأنها فقدت سيطرتها عليهِ، وسرعان ما قرر التدخل قبيل أن يقع حادثًا لها :
- طب أقفل أقفل دلوقتي ، سلام

ودسّ هاتفهِ في جيب بنطاله وهو يوفض بخطواتهِ بـ إتجاهها صائحًا :
- نـــغــم! كفاية كده وقفـيه

لم تستمع له تقريبًا، فـ لوح لها ورفع صوتهِ عاليًا :
- نـــــــغــــم!! بــقـولك وقفــيـه!

التقطت مسامعها صوتهِ، ولكنها بالفعل كانت مُلتهيه بـ وضعها الصعب.. فـ هي فقدت السيطرة فعليًا على "فرحان" الذي بدا وكأنه يُنفث عن رغبتهِ الجامحة للركض، لم تقوَ حتى على فتح فمها للرد أو طلب الإستغاثة في حالتها المذعورة تلك التي غلفتها، انفلتت أعصابها منها وظنت إنها لا تمسك باللجام جيدًا رغم انقباض أصابعها عليه جيدًا، وهذا الشعور جعلها تفقد قدرتها المسيطرة على حركة قدميها، وانفلتت إحداهن من الرِكاب، في اللحظة التالية كانت تطير من أعلاه مرتطمة بالأرض ارتطامًا عنيفًا قاسيًا، قضى على محاولاتها في النهوض عن الأرض.
حينئذٍ كان "يزيد" في طريقهِ إليها راكضًا نحوها، والفزع من هول المشهد وشدة سقطتها قد تمكن منه غير شاعر بـ سرعتهِ الفائقة التي اجتاز بها مسافة طويلة في غضون دقائق معدودة ليصل إليها.

—على جانب آخر—
خرجت "ملك" من المطبخ بـ رفقة "يونس" بعدما وصل لمسامعهم صوت "يزيد" وهو يهدر منفعلًا بالخارج.. وأوفض "يونس" متعجلًا في اعتقاد منهُ بوقوع مشكلة بين "يزيد" و "نغم" گعادتهم، ولكنهُ صُدم بالمشهد الذي رآه.
كانت "نغم" مُسطحة على الأرض فاقدة وعيها تمامًا، و"يزيد" يكافح من أجل إيقاظها مستخدمًا الماء ولكنها لم تستجب بعد.. أوفض "يونس" إليه بقلقٍ؛ وهرعت "ملك" أيضًا وقد أصابها الخوف الشديد على رفيقة دربها الوحيدة التي لا تعلم تحديدًا ما الذي أصابها.. ودنت منهم متسائلة بتخوف شديد عليها :
- مالها يايزيد إيه اللي حصل؟؟؟

فـ نفخ "يزيد" بضيق ورأسها على ذراعهِ يحاول أن يُعيد إليها وعيها :
- وقعت من على الحصان

وضرب على وجهها برفق مناديًا :
- نـغم! سمعاني؟

فـ لم تُصدر أي إشارة ترد بها عليه، فـ نثر قطرات من الماء على وجهها ومسحه بـ كفهِ وهو يهتف بـ امتعاض :
- فاكرة نفسها مدربة فروسية ورايحة تطير بالحصان يمين وشمال!

خرجت "كاريمان" بتؤدة مستندة على عكازها لكي تستكشف سبب هذه الجلبة التي يعج بها خارج القصر، لتُصدم بتجمعهم حول "نغم"، وحتى "مهدي" ترك مهامهِ ووقف ممسكًا بـ زجاجة المياة لأجلها.
بعد مجهود مُضني طويل، بدأت "نغم" تتآوه بتألمٍ وجفنيها يرتجفان محاولة تجاوز ثقلهما، فـ تنفس" يزيد" الصعداء وقد توقف قلبهِ عن النبض للحظات من فرط الرعب، وأردف مشيرًا على رأسها العنيد :
- دماغ دي ولا طبق سلطة!!

فـ هتف "يونس" متضايقـًا من الوضع :
- خلينا ندخلها جوا يزيد انت لسه هتعاتب!

فـ صرخت فجأة، صرخة مدوية أرعبت جميع الواقفين :
- آآآآآآه!

فـ انتفض "يزيد" وهو ينظر لجسدها الذي لا بد إنه يحمل إصابةٍ ما؛ ولكنه لم يكتشفها بعد :
- في إيـه!!

نهجت "كاريمان" وهي تتنفس بصعوبة حينما وصلت إليهم، وسألت بذعر :
- في إيه يايونس!! حصلها إيه نغم!
- وقعت من على فرحان

صرخت "نغم" مرة أخرى بصوتٍ انبح من قوتهِ :
- آآآآآآه ، رجلي ، آآه

فـ نظر "يزيد" لـ كاحلها وتفحصهِ بعنفٍ غير مقصود، فـ صرخت "نغم" مجددًا و :
- آآآآآآه

فـ تركها على الفور خشيةً وجود إصابة خطيرة أو كسر فيها، بينما انحنى "يونس" ونظر لـ كاحلها مدققًا و :
- أهدي يانغم ، ده خلع مش كسر

فـ أشار "يزيد" لـ "ملك" و :
- تعالى هنا ياملك

انحنت "ملك" عليها وجلست بمكان "يزيد" ممسكة برأسها، بينما نهض "يزيد" وانحنى نحو كاحلها قائلًا :
- أسكتي خالص، مش كفاية دماغ جزم، كمان غبية!

فـ صرخت "نغم" وهي تصيح صياحًا امتزج بصوت بكائها الذي شرعت فيه توًا غير قادرة على تحمل الألم :
- خليه يسيبني ياملك، مش عــايزاه يقـرب من رجـلـي الهـمـجي ده

فـ حدق "يزيد" ممكسًا بكاحلها وأردف بـ غيظٍ بزغ على وجهه :
- هـمجي! طيب، خليكي بس فكراها، ماشي؟

وعلى حين غرة، ثنى كاحلها لـ يردّهُ إلى وضعيتهِ الصحيحة.. فـ صرخت "نغم" بصرخة خرجت من أعماقها، جعلت "ملك" تضايق من وضعها أكثر :
- معلش يانغم هو رجعها بس، حقك عليا

وكأن ألمها سكن فجأة وبقيت آثارهِ طفيفة إلى حدٍ ما مُقارنةً بالشعور الأول.. تنفست "نغم" بصعوبة وارتخى جسدها، حينما أشار "يزيد" لـ "ملك" كي تبتعد و :
- وسعي ياملك

فـ ابتعدت "ملك" بينما كانت "نغم" ترفض اقترابهِ منها :
- متجيش جمبي، ملك خليه يبعد عني

قالتها بتوسلٍ وهي تتابع مزيد من بكاءها وقد بدأت آلام ساقيها تهاجمها من جديد، وما لبثت أن أنهتها، حتى تفاجئت بـ "يزيد" يحملها بين ذراعيهِ مانعًا "يونس" من التدخل بعدما عرض عليه مساعدتهِ :
- سيبها يايونس، أنا هرميها في أوضة ملك فوق بكل همجية وقلة أدب وأرجع على طول

فـ تدخلت "كاريمان" وهي تُحذرهُ بلهجة متوعدة:
- يزيد!.. تطلعها وانت ساكت وملكش دعوة بيها خالص ، سمعتني!!

غرزت أصابعها في كتفهِ وهو يحملها بدون وعي منها، كانت تتشبث به مكافحة شعور الألم وهي تردد بدون فائدة :
- لو سمحت نزلني، مش قادرة أناهد معاك دلوقتي

فـ هز رأسهِ مؤيدًا ذلك و :
- واضح إنك مش قادرة، عشان كده لسانك مش مبطل لكلك "رغي"!

مشى بها بخطواتٍ متعجلة وهو يتابع مُحذرًا :
- أسكتي بقا بدل ما أحدفك بجد وأكسر جسمك كله مش هتبقى رجل بس

فـ صمتت وهي تضغط بأصابعها على ركبتها، وتركتهُ يصعد بها غير عابئة سوى بشعور الألم الذي يجتاح ساقيها أكثر وأكثر، متأثرة بقوة الإرتطام، بجانب ألم الظهر الذي بدأت تستشعرهُ بعدما حملها "يزيد"، ولم تستطع منع آهه متوجّعة توقفت في حلقها :
- آه!

فـ نظر صوبها قبيل أن يدفع بقدمهِ باب الغرفة التي أرشدتهُ "خديجة" إليها، وسأل متوجسًا :
- لسه رجلك وجعاكي؟

فـ انزلقت عبرة من بين أهدابها وهي تُجيب :
- ضهري

وضعها برفق على الفراش مُنحنيًا بكامل جسدهِ عليها، ثم انتصب واقفًا واستدار برأسهِ يسأل "يونس" :
- أقرب مستشفى هنا فين؟
- مش قبل ٢٥٠ كيلو من هنا

فـ ذمّ "يزيد" على شفتيهِ بـ حنق وعاد ينظر إليها موبخًا إياها بدون أدنى تفكير في الأوجاع العظيمة التي تستشعرها في سائر جسدها :
- كده عاجبك!! مرتاحة يعني بعد ما فردتي عضلاتك وعملتي فيها أحمد مظهر!

فـ صاحت فيه بعدما نزحت دموعها بـ عنف :
- يـــــوه! لسه بتتعصب عليا برضو، أنت مش شايف الحالة اللي انا فيها عاملة إزاي؟

لكزتهُ "كاريمان" بـ عُكازها كي يبتعد من طريقها وأردفت بصرامةٍ تجلّت على تعابير وجهها :
- أطلع برا يايزيد، Hadi "هيا"

ما زالت عينا "يزيد" الممتعضة مرتكزتان عليها وهو يجيب :
- استني بس يانينة لما الآنسة تطلع اللي جواها يمكن ترتاح

أوفضت "ملك" للداخل وهي تحمل صندوق الإسعافات الخاص بـ "كاريمان" وأردفت بـ :
- أهو يانينة، جيبت الصندوق اللي قولتي عليه

فـ أشار "يونس" لـ أخيه كي ينسحب معه من هنا :
- يلا يايزيد، نينة هتتصرف

تراجع "يزيد" خطوات للخلف وهو ينظر من حوله لما يحاولون فعله، بينما جلست "كاريمان" على طرف الفراش وأردفت بـ :
- هتلاقي عندك كريم أزرق وواحد تاني أبيض، طلعيهم عشان نعلمها مساچ يضيع كل الوجع ده

اجتذبهُ "يونس" من ذراعهِ للخارج وأغلق الباب عليهم، حدج شقيقهِ بنظرات متعجبة من أمرهِ وأردف بـ :
- متقلقش أوي كده، نينة أستاذة في الحاجات دي

فـ نفخ "يزيد" بـ انفعال وحمّل نفسهِ مسؤولية ما حدث لها :
- أنا السبب!

فـ قطب "يونس" جبينهِ بعدما ظن بإنه أحاك شئ ما أدى لذلك، وسحب "يزيد" بعيدًا وهو يسأله بتوجس:
- أنت عملت إيه!!
- دعيت عليها تقع من على الحصان، معقول كانت السما مفتوحة ساعتها!!

فـ زفر "يونس" وهو يُشيح ببصرهِ عن أخيه، وسكن داخلهِ بعدما أبطل تصريح أخيهِ كل الظنون التي خطرت على رأسهِ :
- هو ده اللي عملته!!

تأفف "يونس" مبتعدًا عن أخيهِ وهو يغمغم بـ سخط :
- أهو اليوم باظ زي ما ملك قالت! مفيش فرحة بتكمل أبدًا

وقف "يزيد" خارج الغرفة غير قادر على برح مكانه قبل أن يطمئن عليها شاعرًا بالذنب، بالرغم من أن مبررهُ ليس سبب كافي لإدانة نفسهِ، ولكنه هكذا، دائمًا ما يبحث عن مُدان يوجه له أصابع الإتهام ولا سميا إن كانت نفسهِ هي المُدانة.. يُبرحهُ جلد الذات ولا يترك له هناءًا.
...........................................................................
تناولت "ملك" نصف حِساءها فقط، وبقيت فاقدة لشهيتها بسبب ما حدث اليوم مع رفيقتها التي أتت من أجل عطلة، وانتهى الأمر بها بالمكوث في الفراش.
ترك "يونس" ملعقتهِ وعيناه مُرابطة بها، مُدركًا إنها لم تتناول شيئًا منذ أن جلست على المائدة بجوارهِ، ثم أردف راغبًا في طمأنتها :
- متقلقيش عليها أوي كده ياملك، لو صحيت من النوم تعبانة هبعت أجيب دكتور لحد هنا يشوفها

فـ تنهدت "ملك" وهي تُذكرهُ بمخاوفها التي أخبرتهُ عنها في الصباح :
- مش قولتلك مفيش فرحة بتكمل!

فـ لم يؤيد تفكيرها بهذا الشكل حول ما حدث من واقعة اعتبرها بسيطة :
- متكبريش الموضوع، أنا عارف إنتي متعلقة بيها قد إيه بس صدقيني أنا واثق في نينة وإنها عرفت تصلح الوضع

غرز الشوكة في قطعة الدجاج المطهية ومدّ يده نحو فمها قائلًا :
- يلا كلي

فـ أكلتها واستغرقت وقت في مضغها، ملتهية بالنظر المُتعمق إليه متعمدة حفظ وجهه الذي رُسم موشومًا في ذهنها ، ولكنها رغم ذلك تُحب أن تراه وتنظر إليه دائمًا.. مدّ لها يده بقطعة أخرى وهو يرى عيناها المُحبة ترمقهُ بتلك النظرات الجميلة، فـ ابتسم وهو يدنو منها متجاوزًا تلك المسافة التي تفصلهم وأردف مُحذرًا بصوتٍ خفيض :
- بلاش البصة دي، أنا ممكن أتهور بسببها

فـ أصرفت بصرها على الفور، وأسبلت جفونها وهي تنظر للطعام، التقطت ملعقتها وعادت تُباشر تناول الطعام، گنوع من الهروب؛ ولكنه بقى قريبًا ولم يبتعد قيد أنملة، بل رغب في الإقتراب أكثر ليلتصق بها؛ لولا حضور "كاريمان" في هذه اللحظة، ضربت الأرضية بـ عكازها وحمحمت لكي تلفت انتباههِ لوجودها :
- آحــم !

فـ انتصب "يونس" في جلستهِ ولم يرفع بصرهِ نحوها، بينما جلست هي بجوارهِ وأردفت بـ التركية :
- Düğün ne zaman? "متى حفل الزفاف"

فـ ابتسم "يونس" وحادثها بنفس اللغة لئلا تفهم "ملك" :
- Düğün istemiyorsun. "لا تريد حفل زفاف"

تنغض جبين "كاريمان" ولم يرق لها الوضع :
-Neden?" لماذا"
- Bu nda ısrar etmeyelim. "دعينا لا نصر على ذلك"

ثم نظر "يونس" بـ اتجاهها وفسرّ لها :
- نينة بتسألك عايزة تاكلي إيه على الغدا بكرة؟
- اللي نينة تشوفه، أنا مش هتفرق بالنسبالي

فـ نظرت" كاريمان"حولها وسألت عن "يزيد" :
- هو يزيد لسه قاعد في أوضته؟

فـ أجاب "يونس" :
- آه، رفض ياكل دلوقتي

انبثقت شاشة إتصال وارد على هاتف "يونس"، والذي تركه على وضعية "الصامت".. فـ مسح فمهِ بالمنديل القماش، وتناوله وهو ينهض عن المقعد :
- ثواني وراجع

وابتعد عن هنا لكي يتحدث بـ أريحية.
..........................................................................
عينيها اللاتي تتجولن على السقفية وقد فتحتهم منذ بضع ثوانٍ بعد نوم ثقيل، شعرت بـ فارقٍ شاسع بعدما تعاطت قرص مُسكن للألم واستخدام دهان الجسم المعالج للكدمات والتورمات، باتت في حالٍ أفضل رغم تأثير النعاس الذي سببهُ مُسكن الألم.
تنهدت وهي تستدير برأسها للجانب، وحركت ساقيها گتجربة أولى لـ استشعار مدى تألمها، ثم اعتدلت في نومتها مستندة بظهرها على الوسادة.. بدأت تعي كل ما حولها، حتى أن تلك الرائحة الجذابة بدأت تتسلل بلطفٍ لأنفها.. بحثت من حولها عن مصدر تلك الرائحة ولكن لم تجدها ، تشتت عقلها وحاز الأمر على اهتمامٍ كبير منها، خاصة بعدما شعرت بـ إنها رائحة "يزيد".
تركت زفيرًا يخرج ببطءٍ من بين أضلعها التي شعرت بـ خفقان قلبها، وتحسست ملابسها وهي تنظر إليها بنظرات مضطربة، أمالت رأسها نحو ثيابها مستعينة بحاسة الشم خاصتها، لـ تدرك فورًا أن تلك الرائحة عالقة بها هي.. ازداد خفقانها وأغمضت عيناها بعدما التصقت أنفها بـ ملابسها لبضع ثوانٍ ، وحضر بمخيلتها ذلك المشهد الذي لم تكن تشعر بـه بسبب طغيان شعور الألم على حواسها أجمع، حملهِ لها وقربهِ الشديد والغير مُتعمد منه، خوفهِ عليها واهتمامهِ بـ شأنها، وحتى توبيخهِ العنيف والمشدد لها.
كانت تفاصيل مُبهجة، لكنها لم تعش حقيقة الشعور بها.. ظلت متشبثة بـ ثيابها محتضنة تلك الرائحة التي تركها گأثرٍ له، وارتخت برأسها للخلف، حاولت تعويض نفسها بعد تفويت فرصة العيش بتلك التفاصيل التي لن تُعوضّ، بـ استعادة المشاهد في رأسها وعيشها من جديد في مُخيلتها.
.............................................................................
خرج "عيسى" من البناية العريقة التي أتى لـ زيارتها، حينما كان يتحدث لـ "يونس" في الهاتف لـ يُخبرهِ بـ مستجدات تحرياتهِ :
- عرفت من الأمن إنه واخد الشقة دي إيجار مفروش من حوالي شهر ونص، ولسه موصلتش لسكن ثابت ليه

تضاعفت شكوك "يونس" حول "زُهدي" وهويتهِ، كانت مجرد تخمينات غير مُبررة؛ ولكنها الآن أضحت شئ أشبه بالحقيقة.
فكر "يونس" لـ لحظات قبل أن يردف بـ :
- إحنا لازم نوصل لـ أصل وفصل الراجل ده، عشان لو شكوكي طلعت في محلّها هيكون في خطة تانية توصلنا للي بندور عليه

فـ أكد "عيسى" على مجهوداتهِ المُضنية التي لا يكلّ منها :
- قريب أوي، أنا شغال على كذا حاجه لو ظبطت معايا و....

انقطع صوتهِ، وانخطفت أنفاسهِ لوهله مع ارتجافة قلبهِ، إنه حقًا يراها الآن، ويرى طفلهِ الذي حُرم من رؤيتهِ لسنوات، أمام ناظريهِ تحديدًا على الصفّ الثاني يفصل بينهما طريق عمومي لمرور السيارات من الجانبين.. أبعد الهاتف عن أذنهِ تلقائيًا، وأوفض بدون حتى أن ينظر على جانبيه وقد انفجرت الدماء المُحفزة في عروقهِ وهو يصيح :
- مــازن! يا مــــــازن!

عبر الطريق الأول وسط أبواق السيارات السريعة التي تجاوزها بسلامٍ، وأثناء مروره الطريق الثاني بعدما التفتت زوجتهِ أثر صوتهِ لتراه يركض ناحيتهما.. توترت متفاجئة من هذا الوضع، وما أربكها أكثر تلك الشاحنة الضخمة التي تسير بسرعةٍ مخيفة وهو مُقبلًا عليهم، فـ صرخت به ليتوقف :
- حـــاســب ياعـــيسى !

ولكن إنذارها قد أتى مُتأخرًا لـ تصطدم عيناها بذلك المشهد الدموي، حتى صغيرها صرخ بصياحٍ مذعور :
- بـــابـــــــا..!!!!!
يتبع.....
لقراءة الفصل الرابع والستون : اضغط هنا
لقراءة باقي فصول الرواية : اضغط هنا
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات