القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثامن عشر 18 بقلم ياسمين عادل

 رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثامن عشر 18 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثامن عشر 18 بقلم ياسمين عادل

رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثامن عشر 18 بقلم ياسمين عادل

"مهما بلغ ضعفك، سـ تولد منهُ قوتك من جديد."
___________________________________________

كانت "رغدة" تتحدث في هاتفها بـ أريحية شديدة بما إنها بين أربعة جدارن بغرفة مكتبها مطمئنة إنه لم يستمع إليها أحد.
زرعت المكان ذهابًا وإيابًا ويمينًا ويسارًا وعقلها يكاد يُجنّ من فرط التفكير بالأمر.. كيف اختفى أولئك الألمان الذين حضروا لأرض مصر منذ يومان!؟.. لقد بحثت عنهم في كل مكان ولا أثر لهم.. وهذا ما جعل "معتصم" يفقد السيطرة على نفسهِ، حتى إنه عيّن مُتلصص ينقل له أخبار "يزيد" كي يتوصل لمكانهم فـ يُفسد الإتفاقية ابتي لم تتم بعد، والتي تعد بمثابة أكبر تعاون ألماني مصري بين مؤسستين عريقتين سَيُعزز من قوة مجموعة "الوطـنية".
نفخت "رغدة" وهي تفرك عنقها بأظافرها، ثم أردفت :
- مش عارفه إزاي ده حصل!.. هما مش شوية ورق ولا مستند ضاع عشان يختفوا بالشكل المريب ده، أكيد وراهم حاجه!

وبعد أن سئمت صياح "معتصم" الكي لم ينتهي منذ الأمس، قررت إنهاء ذلك الجدال المُهلك للأعصاب وبسرعة قبيل أن تفقد عقلها أكثر من ذلك :
- ماشي، سيبني دلوقتي عشان معايا waiting

وعندما سألها عن هوية المُتصل تفاقم حنقها أكثر ولم تعد قادرة على تحمل تلك المكالمة الثقيلة عليها :
- صحبتي يامعتصم، كل شوية هتفتح تحقيق ولا إيه! سلام

وأغلقت الهاتف ثم رمتهُ بعيدًا عن متناولها.

في هذه الدقيقة تحديدًا، كان "يزيد" يستمع لكل ما يحدث عن طريق مُسجل الصوت المزروع في غرفة مكتبها وهو في قمة انتشاءهِ.. شعوره بإنه تقدم عليهم بخطوات كان كفيلًا لأن يُبهجه ويفتح الزهور في وجهه گالذي سنع خبر انتظره لسنوات بشغف وشوق.
ترك سماعة الهاتف على المكتب وراح يعبث في خصلات ذقنهِ القصيرة جدًا، ثم نظر للأعلى وهو يبتسم بخبث هكذا.. إلى أن دلف "سيف" بعد طرقتين على الباب، فـ اعتدل "يزيد" في جلسته وهو يستقبله بوجهٍ مُشرق :
- تعالى ياسيف

قطب "سيف" جبينه وهو يسأل بفضول :
- ما شاء الله وشك النهاردة غير اليومين اللي فاتوا خالص

أومأ "يزيد" برأسه وهو يجفل جفونهِ وقال بصراحة :
- صح، موضوع الجماعة الألمان كان قالقني جدًا بس دلوقتي ارتحت

فـ أبدى "سيف" إعجابهِ الشديد بشخصية "يونس" وتفكيره وذكائهِ الداهي الذي أنقذ الموقف بحنكة رجل عاقل مُدبر :
- الحقيقة أنا انبهرت من تفكير مستر يونس وسرعتهُ في الأداء .. متخيلتش يقدر يتصرف في ظرف يوم واحد

فـ أيّد "يزيد" رأيهِ مفتخرًا بشقيقهِ التوأم :
- هو ده يونس، صاحب الدقايق الأخيرة.. زي فريق الأهلى كده، يصبر يصبر وبعدين يحقق هدفهِ في آخر وقت

تنهد "يزيد" وهو يسترجع معه :
- لولا اللي عمله كان زمانا متورطين دلوقتي، تخطيطه لرحلة سياحية في الوقت القياسي ده وإنه يبعت الفريق كله أجازة يومين يتفرجوا على المدن السياحية في مصر فتح لنا وقت تقدر نتصرف فيه لحد ما نعدي أزمة عمي وبنته، من ناحية هو معاهم مسابهمش وناحية تانية point "نقطة" تتحسب لينا قدام الشركة الألمانية.. مش مهم أبدًا إنه اتكفل بالتكاليف كاملة، المهم النتيجة

نهض "يزيد" من مكانه وهو يكركر بضحك هيستيري قائلًا :
- أنا بس عايز أشوف وش معتصم دلوقتي، والله أبغي أقوله hard Luke بس استحي

انفجر "سيف" ضاحكًا من تعبير "يزيد" الساخر حتى قطع ضحكهم صوت رنين هاتف "يزيد".. فـ تنحنح مستعيدًا جديتهِ وأجاب :
- أيوة يا يونس، حاضر.. مسافة السكة

أغلق الهاتف و :
- أنا لازم اخرج دلوقتي، كلمني لو حصل حاجه.. كده كده هرجع على الشركة لو لقيت وقت
- تمام

وخرج..
خرج ومازالت ضحكتهِ تلوح على طرفي ثغرهِ غير قادر على إخفائها كلما تذكر.. حتى إن "رغدة" رأت تلك الضحكة التي تغرف سببها جيدًا، تآكلت من الداخل وهي تراه سعيدًا هكذا، وكيف يكون سعيدًا وهي التي تسعى بـ شتّى الطرق كي تُفسد كل لحظاته، كي يعيش فقط شعور الألم.. كي ترى في عيناه الندم فقط، ولكن خاب ظنها.. هي فقط من تتعذب الآن، وتتعذب بلا شفقة أو رحمة.. تعيش اختيارها، ويا لهُ من أسوأ أختيار.
.............................................................................

لليوم الثالث على التوالي لها بالمشفى..
حاول الطبيب كثيرًا بـ إقناعها أن تلبُث معهم يومين آخرين تحت إشراف طبي قوي، ولكنها كانت متعندة للغاية رافضة أي محاولة.. كرهت رائحة المشفى وأحست كأنها لا تستطيع النوم من فرط الألم ومن شدة الأرق والقنوط من المكان.
تنهد الطبيب فاشلًا معها وفي النهاية رضخ رغبتها :
- خلاص اللي تشوفيه، بس لازم راحة تامة وهشوفك آخر الأسبوع عشان الغيار على الجرح لازم يتم بطريقة طبية منضبطة

أومأت برأسها و :
- ماشي، بس اخرج من هنا

فـ تدخل "إبراهيم" متسائلًا بحيرة :
- هي هتقدر تمشي ولا ناخد لها كرسي بعجل معانا

فـ أجاب "يونس" وكأنه قد اتخذ القرار :
- لأ مش هناخد كرسي ولا حاجه، عربية الإسعاف هتنقلها من هنا للبيت مباشرة من غير أي مجهود منها

فـ رمقتهُ "ملك" بنظرات حانقة لأنه قرر بدون أن يسأل عن رأيها حتى، ثم أردفت :
- أنا مش هروح البيت

فـ ابتسم "يونس" بسماجة وهو يقول :
- مين قالك هوديكي البيت!

فـ تدخل "إبراهيم" هو الآخر وقد اعترض قائلًا :
- مش هينفع تقعد في عربية الإسعاف ٣ ساعات سفر يايونس!

فـ وزع الطبيب بصره عليهم وأردف بـ استغراب :
- سفر!! مينفعش ليها سفر نهائي اليومين دول

فـ صحبه "يونس" نحو باب الغرفة كأنه يطرده و :
- متقلقش يادكتور البيت قريب من هنا ، أنا مجهز كل حاجه

ثم خرج معه لحظات، وعاد بعدها يدخل ويغلق الباب.. استندت "ملك" على الفراش وهي تعتدل وقالت بنبرة محتدمة :
- أنا مش هروح معاك تاني في حته، أنا هقعد عند نغم

فـ ابتسمت "نغم" التي كانا تقف جوارها مباشرة بـ انشراح و :
- على راسي طبعًا ياحببتي

في هذه اللحظة تحديدًا، كان "يونس" يميل عليها بنصف جسده العلوي ليكون أقرب وتعابيره أوضح لها، تراجعت سنتيمتر برأسها للخلف وهي تراه قريبًا هكذا.. بينما قال هو بهدوءهِ المعتاد :
- أسمعي ياملك، أنا عجباني أوي حميتك وشجاعتك.. بس للأسف مش هتنفعك بحاجه دلوقتي ومعايا أنا بالذات، قدامك اختيارين مفيش ليهم تالت، واحد.. إنك هتسلمي أمرك لله وليا وتسكتي خالص وهتيجي معايا، أتنين.. إنك هتفضلي هنا ومش يومين بس، هتفضلي موجودة لحد ما جرحك يلم خالص

كادت تتحدث بنبرة رافضة حكمه و :
- لأ طبعًا آ.....

ولكنه قاطعها وهو يهز رأسه بالسلب :
- تؤتؤتؤتؤ ، أنا مش يناقشك.. أنا بقولك ياأما واحد ياأما اتنين، أروح أخلص تصريح خروجك ولا نقعد هنا؟

تنفست بضيق وهي تحس عجزها أمام وضع إجباري فرضهُ عليها.. إنا نصف الحرية فقط أو عدمها.. لم تجيبهُ ، فـ ابتسم هو ابتسامة أزعجتها وهو يعتدل في وقفته و :
- كده هروح أعمل التصريح عشان أشوف بعد كده العربية اللي هتنقلك من هنا

دخل "يزيد" بعد أن قرع الباب و :
- يونس، أنا جيبت عربيتك من المغسلة وموجودة تحت

أومأ "يونس" وهو يتحرك ليخرج.. بينما أمسكت "ملك بيد صديقتها وجذبتها نحوها :
- تعالي معايا، مش عايزة أقعد لوحدي

فـ تنغض جبين" نغم" بحزن و :
- مش هقدر، أنا معرفش حد من ولاد عمك ومش هعرف اسيب البيت أكتر من كده.. أنا بقالي يومين مروحتش، سامحيني، بس هجيلك

التفتت "ملك" برأسها، فلم تجد والدها حيث كان.. تنهدت وأطلقت زفيرًا مُعبئًا بهمومها وأردفت بنبرة يشوبها الخذلان :
- كويس إنه خرج، يعني كنت هعمل إيه بوجوده اللي شبه عدمه بالظبط

فـ دافعت "نغم" عنه وهي تقول :
- لأ ياملك، عمو كان هيموت من الحزن عليكي.. ده مشافش النوم ولا عينه غمضت عشان يطمن عليكي

فـ أشاحت برأسها بعيدًا وهي تُخبئ دمعة ترقرقت برقة مرورًا بأهدابها و :
- ياريته كان حس بيا بدري، مش بعد كل اللي حصل فيا

وتركت ذاكرتها تسبح من جديد في ذلك العالم الذي حُبست في ذكرياته المخذلة.. كي تعاني الألم من جديد بل وأضعاف.

كان "إبراهيم" قد خرج حينما شعر ببوادر نوبة من الألم الحاد ستجتاحهُ الآن لتمزق في ضلوعه وتنهشها بلا رحمة وجلس خارج غرفتها بالردهة الطويلة، خرج كي لا تراه أو تحس ضعفهِ.. تناول حبتين من المُسكن الخارق الذي سيقضي على أجهزتهِ المناعية أو بالأحرى قضى عليها كي يُسكت ذلك الصياح الذي يجول بداخله، وعندما رآه "يونس" هكذا كان قد قرر تنفيذ ما عزم عليه.
كان يُطالعه بنظرات متضايقة لما آل إليه حاله، فـ قطع "يزيد" تفكيره غير منتبهًا لما ينظر نحوه وسأل :
- طالما مش هترجع المزرعة، هتوديها فين؟

فـ زفر "يونس" وهو يشيح بوجهه بعيدًا و :
- مكان قريب أوي، قريب من هنا.. وقريب من قلبي

ثم نظر لشقيقهِ متابعًا :
- مكان هيشفيها بجد

وكأن "يزيد" قد فهم على الفور ما يجول في رأسه و :
- أوعى تقول اللي في بالي!
- تقريبًا هو

فـ ابتسم "يزيد" ابتسامة واسعة و :
- يبقى أنا مش جاي معاك، أنا مش هقدر أقابلها دلوقتي واتواجه معاها.. بصراحة ومن الآخر مش عايز اتهزق

وضع "يونس" يديه في جيبي بنطالهِ و :
- أمال مين هيجيبهم لحد هناك.. أنا لازم أسبق عشان أهيأ الجو
- يونس أنا آ......

فقاطعه بعدما عاد ينظر لـ عمهِ من جديد :
- شوفلنا دكتور الأورام اللي هنا فين ومواعيده إيه.. عمي لازم يبدأ بالعلاج فورًا

وسرعان ما انتقلت عينا "يزيد" تبحث عن عمه حتى رآه يجلس هزيلًا ضعيفًا هكذا وهو لم يعتاد رؤيته سوى قويًا شامخًا.. فـ تهدّل كتفي "يزيد" وتسائل بحيرة :
- هيرضى؟؟؟
- مش بـ إرادته يايزيد.. حياته وسطنا ده قرارنا كلنا، مش من حقه يحكم علينا وعلى بنته بغيابه.. يلا روح

قالها وتحرك بعدها نحوه، تاركًا شقيقهِ ليرى في عمهِ من بعيد صورة والدهِ "حسن".. لطالما كان "إبراهيم" أب ثانِ له، وهو لن يترك أبيه الثاني بين أحضان الموت
............................................................................

كانت تلك العجوز الشقراء ذات الشعر الذهبي الذي لم يتخلله الأبيض والتي لا يبدو إنها تجاوزت السبعين من عمرها تجلس في الحديقة الصغيرة الملحقة بمنزلها الفاخر في إحدى التجمعات السكنية الحديثة والمرفهه.. تقرأ في كتاب باللغة الإنجليزية وهي ترتدي نظارة القراءة خاصتها ومتعمقة فيها بكل كيانها.. ابتسمت بنعومة لتبرز بعض خطوط التجاعيد التي زادت من جمالها وكأنها انسجمت مع عبارة ما لمستها.. ثم عادت تتابع بشغف إلى أن استمعت لصوت ابواق سيارة بالخارج، لم تهتم أو ترفع بصرها عن كتابها.. بينما كان "يونس" قد ترجل عن سيارته وراح يختلس النظر إليها وهي تجلس هكذا، فكر قليلًا في عذر يسترق به سماحها، ولكنه لم يجد.
فـ أطرق رأسه وحمحم وهو يخطو نحوها ببطء إلى أن رأى خادمتها الوفيّة التي تعمل لديها منذ خمسة وعشرون عامًا تخرج من البوابة الداخلية وهي تحمل كأس مشروب النعناع البارد مع الليمون..
وما أن رأته "خديجة" حتى انبعجت شفتيها وصاحت :
- أستـاذ يـونس! يامرحب يامرحب

لم ترفع "كاريمان" بصرها عن كتابها وتجاهلت ما سمعت، هي في الأساس تعلم إنه هو الذي أتى ولكنها تعمدت تجاهله بعد أن غاب عنها لفترة طويلة حتى ماتت من شوقها له..
دنت الخادمة منه فـ تناول منها "يونس" المشروب الخاص بـ جدتهِ و :
- أزيك يادادة عاملة إيه

فـ ربتت "خديجة" على كتفهِ بحنو وهي تُشبع نظراتها منه و :
- الحمد لله ياحبيبي في نعمة

ثم نظرت في اتجاه "كاريمان" و :
- دلوقتي هتشد ودانك عشان غيبت عنها كل ده

فرك "يونس" أذنه جيدًا وهو يستعد للقائها و :
- عارف

ثم مشى نحوها، وما أن اقترب حتى حاول أن يسرق مسامحتها:
- كاريمان هانم

ثم وضع مشروبها على الطاولة و :
- مش لازم كل مرة تحلوي وتصغري أكتر من المرة اللي قبلها

تركت كتابها جانبًا ووقفت، استندت على عصاها وهي تمشي من أمامه بدون أن تُجيب أو تتحدث معه وكأنه بم يكن موجودًا، فـ راقبها بنظراته بينما تلوت شفتي "خديجة" و :
- قولتلك زعلانة من غيبتك
- مكنتش اعرف إنها زعلانة أوي كده، أول مرة تشوفني ومتحطش دماغها على صدري وتنكش شعري.. بس انا مش هيأس

ثم نظر لساعتهِ و :
- مفيش وقت لكل ده!

سحب المشروب مرة أخرى وكتابها العزيز الذي تقرأ فيه للمرة المائة بدون سئم، ثم لحق بها راكضًا..
كانت قد جلست في شرفة غرفتها تنظر للخلاء، حتى أحست به يأتي من خلفها مبررًا :
- والله غصب عني، أنا مقدرش اغيب عنك وانتي عارفه

فـ صاحت به باللغة التركية :
- Yalancı "كاذب"
أنت بتنسى كل الدنيا وانت في المزرعة بتاعتك مع خيولك ومع ريحانة.. خلي الحصانة بتاعتك تنفعك، لما أموت زي أمك أبقى افتكر تزورني

انقبض قلبهِ وتألم بعدما ذكرتهُ بوالدته وبإنه لم يحضر حتى عزائها لتواجدهِ خارج البلاد وقد تأخر في اللحاق بها بلحظاتها الأخيرة.. عبس واكفهر وجهه، وضاق صدره كأن يدان يُطبقان عليه، ولكنه حارب شعوره لوجود وضع جادي يستدعي حسن تصرفه :
- متقلقش إن شاء الله هموت قبلك عشان مبقاش شوفت اليوم ده مرتين

وكأنه يستعطفها هكذا.. فـ وخزها قلبها هي الأخرى وهي تنهض عن مكانها، وبالفعل جذبت أذنهِ وهي تشدد عليها أصابعها تعاقبه على قوله السئ و :
- متقولش كده تاني قدامي، سامع

فـ أحنى بصره بـ احترام لها و :
- آسف

ثم تركته وعانقته بقوتها الضعيفة و :
- وحشتني يايونس، Çok "كتير"

مسح على ظهرها بلطف وقبّل رأسها و :
- وانتي جدًا، مفتقدك بجد يانينة

ثم تذكر أمر "ملك"، فـ اتسعت عيناه وهو يبتعد عنها و :
- كاريمان، أنا في مشكلة ولازم تساعديني

فـ ذُعرت وهي تسأل :
- في إيه!!

وهنا استمعت لصوت صافرة عربة الإسعاف وهي تقف أمام البوابة يسبقها سيارة "يزيد" والحارس يسمح بدخولها بعد أمر من "يونس" الذي أخبرهُ بذلك منك قليل.
اتسعت حدقتي "كاريمان" وهي تنظر بتركيز مستندة على درابزون الشرفة، وسألت بقلق اعتراها :
- فيه إيه يايونس؟ إيه جاب عربية الإسعاف هنا!

فـ ذمّ "يونس" شفتيه و :
- هي دي المشكلة، في ضيفة محدش غيرك هيقدر يستضيفها

فـ استدارت "كاريمان" ببطء يناسب قدرتها الجسمية و :
- ضيفة مين!! وليه عندي هنا؟
- هفهمك بشكل موجز عشان الوقت ضيق

دخلت سيارة الإسعاف من البوابة وبدأ المسعفين في نقل السرير النقال من العربة إلى داخل المنزل بتوجيه من "يزيد".. ثم بدأ يقودهم لأحد الغرف العلوية والتي كان يُقيم فيها "يونس" عندما قضى أغلب ليالي إقامته هنا، كانت "ملك" تنظر للمنزل من حولها بنظرات متعجبة وإحساس الإختناق ما زال متمكنًا منها، تشعر إنها مُسيّرة لا مُخيّرة، بعدما نصحها هو بأن تتمرد على الأوضاع التي لا تروق لها.. هو الذي يحكم عليها بالأسر هنا في مكان لا تعرفه وكأنه يقول أن مفتاح قيودها معه هو فقط.
خرج المسعفين بعدما تركوها ترتاح على الفراش وغادروا المنزل برفقة "يزيد"، ثم صعد من جديد كي يبحث عن "يونس"، ولكنه وجد "كاريمان" تخرج أمامه من غرفتها وترمقه بنظرات غاضبة..
أسبل جفونه و :
- أزيك يانينة

ثم انحنى كي يُقبل يدها ولكنها سحبتها منه و :
- Yapma. "لا تفعل"

ثم أشاحت بوجهها وتابعت :
- بعدين لينا حساب مع بعض

ولكزتهُ بعكازها وهي تردف :
- ياإبن حسن

ثم تركته وسارت نحو الغرفة التي تضم تلك الضيفة، بينما غمز له "يونس" كي يتجاوز الأمر.. فـ غمغم الآخر :
- مش فاهم هي إبن حسن دي شتيمة يعني!

دخلت "كاريمان" الغرفة بهدوء كي لا تزعجها، ثم ابتسمت برقة وهي تراها و :
- ممكن أدخل؟

حاولت "ملك" تحريك رأسها قليلًا ولكنها لم تستطع حملها من فرط الألم، ولكنها استطاعت أن ترى تلك المرأة الجميلة التي تقع في حُبها من النظرة الأولى.. ابتسمت بخجل مكافحة ألم ذراعها وقالت بتوتر :
- آ.. اتفضلي طبعًا

دلف "يونس" خلفها و :
- أعرفك ياملك

ثم قال بـ افتخار :
- جدتي كاريمان، أم أمي الله يرحمها

فـ ابتمست "ملك" بـ ارتياح لرؤيتها و :
- أهلًا بحضرتك

دنت منها "كاريمان" و :
- أهلًا بيكي أنتي ياحبيبتي، Hoş geldi niz "أهلا وسهلا"

فـ نظرت "ملك" تلقائيًا بعدم فهم نحو "يونس" الذي أوضح على الفور :
- بترحب بيكي بالتركي، جدتي أصولها تركية في الأساس

فـ أومأت إيماءة صغيرة صاحبتها عبوس متألم بوجهها و :
- أهلًا بحضرتك

فـ أشارت لها "كاريمان" كي لا تتحرك نهائيًا و :
- متتحركيش خالص

جلست "كاريمان" على طرق الفراش وهي تتطلع لملامح وجهها البريئة التي اتشحت بتعابير الحُزن والتعاسة، قطبت جبينها بضيق، فهي لم تعرف عنها سوى بعض الخطوط العريضة التي ضايقتها.. ربتت "كاريمان" على ساقها بلطف بالغ مُراعية أن لا تؤلمها و :
- بعد الغدا هنتكلم كتير مع بعض، دلوقتي وقت الراحة

ثم نظرت لساعة يدها الذهبية الثمينة التي لا تنزعها سوى قبيل النوم و :
- فاضل على معاد الغدا نص ساعة بالظبط

تدخل "خديجة" في هذه اللحظة، فـ تأمرها "كاريمان" :
- ديچا ، بسرعة حضري الغدا عشان ملك.. كله مسلوق مع شوربة، عشان تاخد العلاج بعد ساعة من دلوقتي

ارتفع حاجبي "ملك" بـ اندهاش، فـ قطعت عليها "كاريمان" سبيل التفكير و :
- متستغربيش، أنا آه عجوزة بس كل حاجه بتتسجل هنا

وأشارت على رأسها :
- مش بنسى

اجتذب "يزيد" ذراع شقيقه برفق و :
- تعالى يايونس عايزك، هما هيعرفوا يتفاهموا مع بعض كويس

فـ أردفت "كاريمان" بدون أن تنظر خلفها :
- يزيد، لو مشيت قبل ما أكلم معاك مش عايزة أشوفك تاني
- أنا هنا اهو يانينة متقلقيش، ركزي بس مع ملك

ثم أغلق الباب عليهم وزفر بـ ارتياح :
- الحقيقة انت فعلًا جبتها المكان الصح، نينة دي مصحة علاجية لوحدها.. بس ربنا يستر أحسن تطفح عليها

نظر في ساعة يده، فقطع عليه "يونس" السبيل و :
- متفكرش، لو مشيت كاريمان هتنزل عليك غضبها

ثم مطّ شفتيه وقد تذكر ذلك الأمر الذي تركه ناقصًا وقال :
- أنا اللي لازم امشي، ورايا مشوار ميتفوتش

فـ أقارب منه "يزيد" وهمس :
- طب امشي انت وانا هداري عليك

فـ ضحك "يونس" غير مصدقًا و :
- آه، عشان تمشي ورايا على طول زي ما كنت بتدارى فيا زمان مش كده!.. ده بعينك

فتحت "كاريمان" الباب لتنظر إلى الشابيّن اليافعييّن أمامها.. ما أن رأتهم ورأت هيبتهم ووقارهم تشعر بالفخر، هم جمعوا من خصال أبيهم وأمهم، ولكن "يزيد" بالأكثر تشبهِ بوالده.. رمقتهم لبعض الوقت وهم لا يشعرون بوجودها، حتى أوصدت الباب.. فـ التفت إليها "يونس" وخطى نحوها وهو يسأل :
- ها ياكاري، هتعملي إيه؟
- سيبها لي ومتقلقش.. أنا هعالج روحها قبل جسمها

فـ ابتسم "يونس" متأملًا الخير فيها و :
- ياريت

مسحت" كاريمان" على وجهه وكأنها الوحيدة في العالم الذي تفهمه جيدًا وقالت بنعومة ممتصة شعوره بالذنب :
- أنا ملكش دعوة يايونس، أنت مأذنبتش

فـ تضايق وهو يفسر :
- بس سيبتها لوحدها، خذلتها وهي اللي بصلتي عشان انجدها.. مكنتش اعرف أي حاجه من اللي حصلت قبل كده
- برضو ده مش ذنبك، هي شافت اللي مكتوب ليها.. وربنا بعتك في الوقت المناسب عشان تكون سبب إنها تعيش

ثم نظرت نحو "يزيد" ورفعت رأسها إليه وهو بطوله الفارع الذي يتجاوزها و :
- جهز نفسك، في طلبات هتروح تجيبهالي

حدق "يزيد" فيها و :
- هو ده العقاب يعني؟

فـ أومأت رأسها وهي تجيب :
- شوية حجات حريمي خاصة جدًا عشان إقامة ملك هنا معايا، وحجات تانية هحتاجها

تحرج "يزيد" وهو يسألها :
- خاصة يعني إيه؟؟
- يعني خاصة

كبح "يونس" ضحكة كادت تطفو على مبسمهِ و :
- أنا هغيب نص ساعة وارجع اكمل كلام معاكي يانينة

فـ استنجد به شقيقه و ينظر إليه هكذا بـ استعطاف :
- يونس! عيب عليك إحنا شقايق وتوأم كمان، تسيب أخوك كده!

فـ ضرب "يونس" على ظهره و :
- أجمد، هسيبك نص ساعة وراجع

لكزته "كاريمان" و :
- مش هحبسك متخافش، أنت كبرت خلاص وبقيت أطول مني
- الحبس أهون من مطالبك يانينة
- ريح نفسك، هتروح يعني هتروح

كانت نظراته تتعقب "يونس" الذي مضى في طريقه متعجلًا، ثم عاد ينظر نحوها بقلة حيلة مستسلمًا :
- أخرتها هجيب لبنت منار حجات حريمي وحجات شخصية، ده الزمن اتقلب حاله والله!
............................................................................

رغم الحراسات التي كانت تنتشر هنا وهناك في المشفى العسكري، ورغم التشديدات التي كانت على المرضى خاصة المُحتجزين والمسجونين الذين خضعوا للعلاج هنا.. إلا أن "عيسى" وجد طريقًا يستطيع به إدخال "يونس" إلى هنا.. كلفه الأمر الكثير من السعي والكثير من المال أيضًا، ولكنه استحق في الأخير بعدما وطأ "يونس" المكان بنفسه وتحديدًا الغرفة التي تأوي "محمد".
دلف "يونس" بسهولة بعد أن تم تدبير أمر العسكري الحارس للغرفة، وألقى نظرة شاملة أولاً على "محمد" الذي كان ذراعه في جبيرة من الجبس وساقه مُقيدة في الفراش الحديدي كي لا يفر.. رمقهُ بشماتة واضحة، استطاع "محمد" أن يقرأها في عيناه بوضوح.
انتفض "محمد" في جلسته وهو يرمقه بنظرات محتقرة وصاح فيه متناسيًا آلام ذراعه المكسور :
- أنت دخلت هنا ازاي!!

فـ حك"يونس" أصبعيه مصدرًا صوت طرقعة و :
- كدهوا، بطرفة عين

ثم نظر لحالته المُزرية وهو يبتسم قائلًا :
- جيت اشوف خدت اللي تستحقه ولا تستاهل تاني

فـ شعر "محمد" بإنه يرمي إلى شئ ما :
- قصدك إيه!

فـ صرح "يونس" على الفور وهو يضحك ببرود يحرق المواجه له :
- قصدي إن أنا اللي جيبتك هنا

ثم هز رأسه يزيد من التأكيد :
- آها، أنا.. وانا برضو اللي ممكن أخليك تقضي حياتك هنا

ثم اقترب منه وهو يضع يمناه في جيبه :
- بس انا مش هعمل كده، أنت برضو كنت جوز بنت عمي ومينفعش تبقى ردّ سجون

أخرج "يونس" ورقة مطوية من جيبه وقلم من جيب سترته، ثم دنى منه و :
- أنا محتاج بس توقيع صغير منك هنا، بعدها هخرج ومش هنشوف بعض تاني.. للأبد

نظر "محمد" للورقة بـ احتقار ثم رمقه مستخفـًا به و :
- ده إيه ده!! إيصال أمانة؟؟ فاكرني عيل صغير ولا بريالة قدامك؟
- تـؤ، أنت ناضج وعاقل ومش هتحب إنها تيجي بشكل مش هيعجبك

فـ تشنج "محمد" وهو ملتصق بالفراش وصاح فيه :
- محدش يقدر يجبرني على حاجه، وبنت عمك اللي كانت السبب في رميتي هنا أنا هربيها من أول وجديد و.....

كانت كلماته وسيلة ضغط على عروق "يونس" التي تأججت ما أن بدأ "محمد" في لهجة التهديد والوعيد.. ولم يعد لديه مخزون من الصبر والهدوء يكفيه لمواجهة هذا الأحمق الذي زاد تطاوله خاصة وأن "يونس" لا يطيق رؤية وجهه مثقال ذرة..
وقبل أن يكمل كلمته كان "يونس" يطبق على عنقه وقد غرز إبهامهِ في عظمة عنقه الرقيقة يكاد يكسرها لمنع عنه الهواء، وأردف من بين أسنانهِ الملتصقة ببعضها وهو يكزها بعنف شديد :
- أنت متعرفنيش كويس ياض، أنا صحيح تربية خواجاتي، بس ساعة الجد ببقى إبن شوارع وواكل حرام لو لزم الأمر.. روحك مش هتكلفني شعره من راسي

ثم شدد قبضته عليه حيث بدأ وجه "محمد" يشحب ويزرق وهو يعجز عن التقاط أنفاسه أو الدفاع عن نفسه في ظل قوة "يونس" التي تمثل أضعافهِ :
- ده انا اكرمشك زي الورقة واحطك في جيبي واحلف إني ولا شوفتك ولا قابلتك.. أتعدل أحسن أنا في الوساخة ببقى ×××× ومحدش يقدر يوقفني

دفعه ليتركه يسعل ويلتقط الهواء لصدره بصعوبة، وقال إينذاك:
- ما قولت بالطيب من الأول!

لهث "محمد" وهو يعافر من جديد و :
- أنت مين عشان تتدخل، أنت آ "كحكحكحكح".. ملكش الحق....

قاطعه "يونس" وقد برزت خشونة صوته من جديد :
- ليا، ليا ونص كمان.. اللي اتجرأت وضربتها قدامي دي لحمي ودمي، ولو مكنتش موجود قبل كده.. فـ انا هبقى زي ضلك من هنا ورايح

دنى منه والشرّ ينطلق من بين نظراته الحامية انطلاقًا گالقذائف :
- أنا في الحق واقف زي الجبل، أمال بقى لما يبقى حقي وحق اللي مني.. ده انا أهد الدنيا على دماغك انت واللي خلفوك

ثم ضرب على كتفه :
- أظن كده إحنا اتعرفنا بالشكل المناسب

انحنى "يونس" وجلب الورقة والقلم و :
- إيصال الإمانة ده فاضي، هيترمي في خزنتي لحد ما تطلق ملك بالتلاتة وتنساها نهائي.. بعدين هبقى أرميه

ناوله القلم و :
- يلا قبل ما يكتبوا شهادة وفاتك من هنا

ثم أشار حوله بتفاخر و :
- المكان هنا ملكي، زي ماانت شايف.. الشرطة برا، وانا جوا

ابتلع "محمد" ريقه بتخوف وقد ارتجفت أعصابه وخشى أن يتورط مع هذا الرجل الخطير فعلًا.. لقد رأى هذا في عيناه، نظر للورقة التي سيوقع عليها لإنقاذ حياته، ثم نظر لـ "يونس" بشك ليقول الأخير :
- متخافش، الرجالة كلمتهم عهد، مش كلنا زيك

فـ رمش "محمد" و :
- إيدي اليمين مكسورة
- بالشمال ياحبيبي، وهتبصم كمان

أخرج "يونس" علبة صغيرة تحتوي على الحبر، ثم أردف :
- يلا عشان خدت من وقتي كتير

ارتجفت يداه وهو يمسك بالقلم ويحاول أن يوقع على الورقة، ثم أمسك "يونس" أصبعه بحزم وطبع على الورقة بالحبر كي يترك بصمته كدليل أكثر قوة..
طوى الورقة ووضعها في جيبه وهو يقول :
- كده أقدر أقولك ألف سلامة، وتعيش وتاخد غيرها

استعد "يونس" للمغادرة ، وقبل أن يخرج التفت لينظر إليه نظرة أخيرة و :
- على فكرة، متنساش تتنازل عن المحضر ضد الراجل اللي ضربك في التخشيبة، الراجل ده يخصني وهيخرج من هناك برضاك.. بدل ما تدخل انت كمان معاه

فـ أسرع "محمد" يقول :
- والمحضر اللي ملك آ.....
- شششششش

تجهم وجهه أكثر وهو يقطع حديثه، وبلهجة شديدة الحزم أردف :
- متنطقش أسمها على لسانك مرة تانية أحسن ليك، الكلام معايا خلص لحد هنا
- أستنى يا.......

صفع "يونس" الباب، نظر حوله بعدما خرج.. ثم غمز للعسكري الواقف و :
- تسلم يادفعة، متخافش أنا سايب الأمانة زي ما هي

أومأ العسكري رأسه بتوتر وهو ينظر حوله، فـ أردف "عيسى" :
- إحنا ولا شوفناك ولا شوفتنا
- متخافش يابيه

ابتسم "يونس" وهو يردف :
- عظيم، عظيم أوي
يتبع.....
لقراءة الفصل التاسع عشر : اضغط هنا
لقراءة باقي فصول الرواية : اضغط هنا
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات